Sunday, September 28, 2025

عائلتي .. أماني وضحكتي ودنيتي



الخميس مساء مختلف عن باقي مساءات الأسبوع. عطلة ننتظرها بشغف وإن كانت قصيرة. نعيش لحظاتها بنفوس مرتاحة مطمئنة وقلوب عامرة بالمحبة والأمل. فيها نعيد ترتيب أرواحنا المثقلة بالأحلام والمنهكة بالهموم، وننسى مشاغل ومتاعب الأسبوع. ليلة الخميس نستعد فيها لجمعة العائلة ولقاء الأحباب. ليلة تنتظر اشراقة شمس يوم الجمعة المحمّلة بالطاعة والبهجة والكرم. يوم الجمعة بركة الأسبوع وروحه، تتنفس فيه القلوب السكينة، وتغتسل الأرواح بالعبادات وبذكر الرحمن.
الجمعة في البيت الكبير عادة أصيلة توارثناها جيلًا بعد جيل. لأن صلة الرحم رزق يبهج القلوب، وأثر يطيب النفوس بحفاوة الأهل وكرم الأحباب. بيت الأهل حضن محب دافئ، ومنبع راحة وسعادة لا تقدر بثمن. تحلى فيها السوالف الخاثرة اللي ما تنتهي، وفناجين القهوة وبيالات الكرك بين الأيادي. في هذا اليوم يجتمع الكبار والصغار حول مائدة عامرة بالحب والحنان والدفء العائلي، قبل أن تكون عامرة بكل مالذ وطاب. ليزهر الأمل والسعادة مع كل لمة أهل، وتسكن الطمأنينة والراحة كل أيامنا، وتزين الابتسامة وجوهنا. هناك لحظة فاصلة عند دخولنا البيت الكبير، نختار فيها أن ننفصل عن العالم الخارجي لنتصل بمن هم داخل البيت. نضع الهاتف جانباً لنستمتع بالتحدث والضحك معهم، ونعتز بهذه الجمعة بكل تفاصيلها والأحداث البسيطة، التي تترك فينا من المسرات أجملها ومن الذكريات أروعها. 

عندما تتآلف الأرواح، تصبح اللغة واحدة والقلب واحد والشعور واحد. يوحدنا الحب وإن فصلت بيننا المسافات 

العائلة ليست فقط علاقة من لحم ودم، هي أعز وأثمن نعمة. ‏أمان وحنان عندما يقسو علينا العالم، و‏ملاذ وانتماء عندما نتوهُ ونتعثر. هي معنى يسكن الروح، وركن في القلب إذا انكسر، اهتزت أركانك كلها. لا أمان كأمان الأب، ولا قلب كقلب الأم، ولا صداقة كصداقة الأخت، ولا سند كسند الأخ. المدد زوجي والكنز أبنائي. لدي عائلة عظيمة أهدتني حياة مذهلة. أحاطتني بالدلال وليس الدلع. بالاعتماد على النفس وليس الاتكال. بحل المشاكل وليس تجاهلها. بالحرية وليس التحرر. بالأخلاقيات وليس المثاليات. بالتفرد وليس التقليد، بحب العلم والقدرة على النقاش وإبداء الرأي، بالتواصل وتقدير الاختلافات الفردية. 

حفظكم الله لي نعمة لا تُعوَّض، وادامكم لي بصحتكم وعافيتكم 

بعد عمر معين وسط المشاغل اليومية، نبدأ في حب اللحظات البسيطة والتفاصيل الصغيرة في حياتنا: مثل هدوء الصباح وزقزقة العصافير. حديث دافئ مع كوب كرك/قهوة مع من تحب بلا استعجال. بيت العائلة البسيط وجمعة ممتعة كل نهاية أسبوع. ضحكات الفتيات الخجولة ومشاكسة الفتيان المتمردة. ليس لدي مكان مفضّل بحد ذاته، بل لدي أشخاص مفضّلون. يحوّلون أي مكان نجتمع فيه إلى مكاني المفضّل، حتى وإن دعى الأمر إلى السفر إليهم. تستمد البيوت الحياة من الحب الذي يكنّه ساكنيها والترحيب بزائريها، وبالعلاقة العميقة التي تربطها بهم. فالحب والسعادة لا تكون حقيقية إلا عندما نتشاركها مع الجميع. 

أحِنُّ إلـى أهْـلي وَأهْوَى لِـقَاءَهُمْ .. وَأينَ مِنَ المُشْتَاقِ عَنقاءُ مُغرِبُ – المتنبي 

كم أعشق لمة الأجداد مع الأحفاد في الجمعة الأسبوعية. تربطهم علاقة متميزة عندما تلتقي دهشة ونقاء الطفولة مع خلاصة الحياة. في هذه الجمعة وجوه تُحبنا بصدق دون شروط. لا يرحلون عند أول خلاف، بل يزدادون قرباً ويثبتون أن الحب موقف قبل أن يكون شعور. يقرأون صمتنا ويجمعون شتاتنا برفق ويعيدونها مرتبة معطرة. إن أخطأنا غطّوها بابتسامة تفهم ولا تحاسب. معهم تصبح الأيام أجمل والشدائد ألطف، والمغامرات أمتع. كل لحظة معهم أمان، وغيابهم يترك فراغًا لا يملؤه كنوز الدنيا. هم الثبات الوحيد في الحياة واليقين بأنهم الأرض الخصبة التي نزدهر منها. نبحث عنهم في تفاصيل يومنا الروتينية، في نبرة صوت نشتاقها، وفي حضور يبعث الطمأنينة ويضيء العتمة. لا أشعر بثقل الحياة حين أكون معهم، ولا اضطر لشرح نفسي، لأنهم يعرفونني أكثر مما أعرف نفسي. فلنتمسك بمن يستحق، ونمضِ بتفاؤل. 

الاطمئنان على من نحب ليس عادة، بل وعد صادق لا ينكسر 

‏ما أتعس بيتًا يسكنه الخصام بين الإخوة. الخلاف مهما كانت أسبابه، لا تفكر بأسوء رد، بل فكر في حفظ الود. فأصلِحوا ذات بينكم، ولا تجعلوا من الهجر عادة، فإن الموت لا يُنذر. والقلوب إذا ابتعدت قست، وإن تصالحت، عادت الحياة معها جنةً. لا تكسروا قلوب آبائكم بخلافاتكم، ولا تجعلوا من خصومتكم ميراثًا، ولا من عنادكم سنّةً تُتّبع. ولنا في قصة يوسف وإخوته خير عبرة. 

التوثيق البسيط لجمعة العائلة، تمنح شعوراً بالارتباط والأمان، حتى في غيابنا. الصور ذاكرة عاطفية تعيش طويلًا، وإرثاً يبقى بين يدي الأجيال. لا يهم كيف يبدو شعرك، أو شكل جسدك، أو ماتلبسه. كل ما يهم هو أنت، فكن حاضراً فيها. 

آخر البيالة: الجمال في جملة (أهلاً وسهلاً ومرحباً) وحنان معناها عالقلب. أهلاً: أنت في بيتك بين أهلك، لست بغريب. سهلاً: وطئت موطئناً سهلاً ومريحاً لن يمسك فيه سوء ولن تشعر بالتعب. مرحباً: أنت في مكان رحب يتسع للجميع. 

حللْت أهلاً ووطِئت سهلاً لكل روح جميلة، والعين أوسع من الدار

No comments:

Post a Comment