Wednesday, April 22, 2020

أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ


أيام قليلة وتبدأ قصة جميلة معطّرة بالأجواء الإيمانيّة لتغمر قلوبنا بالسعادة. أيام مباركة مليئة بالخير والبركة تقرّبنا من المولى عزّ وجلّ. موسم إيماني تتضاعف فيها الأُجور وتسمو فيها الأرواح. نجدد فيها العهد مع الله سبحانه وتعالى بالمحافظة على الطاعات. 

اللهم اختم لنا شهر شعبان بعفوك ورضاك، وأهل علينا شهر رمضان برحمتك وحماك، وأختمه علينا باليمن والإيمان والمغفرة. اللهم أعنّا على صيامه وقيامه، وأذقنا فيه من حلاوة ذكرك بتوفيقك، وارفع عنا الوباء واجعلنا فيه من عتقائك من النار يارزاق ياكريم. 

وكان من عادة النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يُبَشّر أصحابه -رضي الله عنهم- بدخول شهر رمضان: (أتاكم شهرُ رمضان، شهرٌ مباركٌ، فرض اللهُ عليكم صيامه، تفتحُ فيه أبوابُ الجنَّة، وتُغلق فيه أبوابُ الجحيم، وتُغَلُّ فيه مردةُ الشياطين، وفيه ليلةٌ هي خيرٌ من ألف شهرٍ، من حُرِم خيرها فقد حُرِم). 

وقد وصفه الله عزّ وجل بأنّه (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) البقرة: 184، جمع قلة تهويناً لأمره على المكلفين. وفي هذا الوصف مايُشعر بسرعة انقضائه، وأنّ الوقت فيه هام جداً، لذا فعلى الإنسان الاهتمام باستثماره خير استثمار، وعيش طاعة الوقت من صلاة وصيام وقيام وتلاوة للقرآن. وتباينت الآراء في اسم شهر رمضان وسبب تسميته بذلك، ففيه حرقاً للذنوب والمعاصي أي مغفرتها، وتتعظ فيه القلوب وتتأثّر بحرارة الخير. فالرمضاء التي هي أصل كلمة رمضان يُقصَد بها اشتداد حَرّ الظمأ. 

والصيام عبادة عظيمة تُطهّر النّفس وتزكّيها. تنمي قدرة الصائم وإرادته على التحمّل والصبر والتقصّد، فيتجدد نشاطه ويشعر بالراحة الجسدية. تغير نظرة الصائم للحياة وتغيير النمط الذي يتبّعه في حياته، من خلال تهيئة نفسه وقلبه لشهر رمضان وزيادة دافعيته لأداء العبادات والطاعات والأعمال الصالحة، والحرص على الاستمرار عليها. ويعينه على فعل الخير تجاه الفقراء والمساكين. 

وأحرص كل رمضان أن تعيش عائلتي جوّاً إيمانياً والطرق الصحيحة في التعامل مع أهل البيت. وإخلاص النيّة لله الحفيظ وعَقْد العزم على استغلال الأوقات المُباركة في الطاعات واجتناب المعاصي، وحب الصلاة في وقتها، والصيام وتعلم أركانه وأحكامه وآدابه، وأداء الزكاة وغرس قيمة فعل الخير والمشاركة مع الأهل والفقراء والمساكين من خلال أساليب و طرق بسيطة تركت أثراً قيّماً في نفوسهم. ونكتسب القيم والأخلاق الحسنة. والحرص على قراءة القرآن وتعلمه، عن طريق تفسير معاني السور وشرح القصص التي وردت به. فحلقات حفظ وتلاوة القرآن أعانت أبنائي على زيادة قاموسهم اللفظي وتحسين مخارج الحروف وقراءة اللغة العربية قراءة صحيحة. 

قال التوّاب الغفور في كتابه: (وثيابك فطهر) المدثر: 4، إذ على المؤمن أن يتطهر من الذنوب والمعاصي. وفي فضل قراءة القرآن، قال الرحمن في كتابه العزيز: (ورتّل القرآن ترتيلاً) المزمل: 4. وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) رواه عثمان بن عفان رضي الله عنه. واعلم إذا استعجلك الشيطان في صلاتك فتذكر أن كل ما تريد لحاقه، وجميع ماتخشى فواته بيد من وقفت أمامه. وأجمل ما في السجود أنك تهمس في أذن الأرض فيسمعك من في السماء. 

أخر البيالة: أتعلم مامعنى عسى في الأمر خيرة؟ ‏تعني أنه: يبتعد عنك شيء، ‏ليقترب شيء أجمل. حيث سيحل علينا شهر رمضان هذا العام هادئاً على غير عادته، خالياً من أبرز المظاهر والفعاليات الدينية والاجتماعية والإنسانية في ظل الإجراءات الاحترازية لاحتواء فيروس كورونا. فكل مانحتاج إليه هو الانضباط الذاتي والحرص على التباعد الاجتماعي بالإلتزام المنزلي وتطبيق إجراءات الوقاية لحماية أنفسنا وسلامة المجتمع. ولنتضرع بـالـدعـاء لـيـرفـع الـلـه عـنّـا الـوبـاء والـبـلاء، ونعود إلـى رحــاب بـيـوت الـلـه ورحاب بيوت أهلنا. 

مبارك عليكم الشهر

Friday, April 10, 2020

اكتشف قطر - ذكريات بيت المنتزة

عشت فيك عمراً وكم أحببت هذا العمر الذي عشته فيك

ذكريات .. أيام سعيدة .. لحظات بعيدة .. على القلب قريبة

ذكريات أيام الطفولة في البيت الكبير، ربتنا واحنا صغار وأثرت في حياتنا واحنا كبار

لقد كان بيتنا في منطقة المنتزة (أو ماتسمى حالياً بروضة الخيل) معروفاً بأشجار المانجا، نستمتع بقطف ثمارها بكل سهولة كما الآية 23 من سورة الحاقة (قُطُوفهَا دَانِيَة).أغصانها عالية تحيي أشعة الشمس، فاكهة صغيرة الحجم لكن لذيذة الطعم. إنها أشجارٌ كريمة تقدم ثمارها بحفاوة لأصحاب البيت ولكل من يمد يده من خارج أسوار البيت ويتذوق حلاوتها. حديقة واسعة خضراء يعمّها الصفاء والسكينة وتغريدة العصافير، تتزين بالأزهار وأشجار النخيل والكنار واللوز والزيتون والمانجا ونوعين من أشجار التوت وشجرة البطاطا الحلوة التي كنا نقطفها لنأكلها على العشاء. حضنت بكل سعادةٍ عددٌ لا يحصى من حفلات أعياد الميلاد وحفلات التخرج وحفلات الخطوبة وجمعات الأهل والأصحاب. استضافت وجبة الفطور كل رمضان في الغرفة المطلة على الحديقة (والتي كانت سابقاً غرفة ألعاب لنا)، وجموع الأهل المهنئين بقدوم الشهر الفضيل. وامتلأت بأصوات الأطفال ليلة القرنقعوه يغنون الأهازيج الشعبية ويجمعون الحلوى والمكسرات بكل فرح.

ولما لهذه الحديقة من مزايا السعة والظلال، استطعنا أن نتبنى عدداً من الكلاب المختلفة على مر السنين في طفولتنا منهم (لاسي وبوبي ومفن وبسكت) وأوينا عدداً من قطط المنطقة، نطعمها من بقايا الطعام. كم استمتعنا أيام الصيف الحارة في بركة السباحة واللعب برشاش الماء الذي كان يسقي الحديقة والاستمتاع ببرودة مكعبات الثلج من ماكينة الثلج المتواجدة بالمطبخ الخارجي. وكم أحببنا المغامرات التي نقوم بها في أنحاء الحديقة ولا نمل من لعب الخشيشة والقيس، كما أحبها أبنائنا من بعدنا. نبحث عن السعادة بعمق ونجدها في أبسط الأشياء.

كما كان مجلس والدي الخارجي عبارة عن متحف تراثي مصغّر، احتوى على عدد من الصور ولوح السيارات القديمة والبنادق وغيرها. واستضاف عدد من جلسات السمر بحضور الفنان فرج عبدالكريم وعلي عبدالستار، إذ كان والدي وإخواني من محبي العزف على العود. بعد الانتهاء من مساعدة والدتي في الترتيبات لهذه الجلسات، كنا نسترق النظر والسمع من نافذة البيت، لنرى الحضور ونستمع لأنغام الطرب والضحك إلى أن يتأخر الوقت على موعد نومنا وتوبخنا والدتي.

وعلى رغم من صرامة تربيتهم لنا، إلا أن والدينا خلقوا لنا من المنزل بيئة استكشافية علمية وثقافية وفنية. استلهمنا منهم الاعتماد على النفس وتطوير الذات وحب الاستكشاف، ونهلنا من بئر معارفهم العلوم والثقافة وأمور الحياة، وعدم الخوف من الوقوع بالخطأ وتكرار المحاولة. احتوى البيت على مكتبة كبيرة فيها عدد لا يحصى من الكتب والمجلات العلمية والثقافية، الكتب التراثية والتاريخية، إضافة إلى الدراسات والأبحاث الجامعية الخاصة بوالدتي. كما ورثنا منهم حب الرياضة وخصوصاً رياضة التنس والرياضات المائية المختلفة. لقد اشترى والدي تلسكوب ليغذي فضول أخي خالد بالفضاء و الكواكب، استطعنا به رؤية كواكب ونجوم المجموعة الشمسية و كذلك مذنب هالي، وعمل لإخواني ورشة خاصة في البيت نمت فيها هواية الاختراع والميكانيكا والطيران اللاسلكي. وفي هذا البيت نما شغفي للصحافة والإعلام والتصوير، وشهد ولادة كتاباتي الأولى وأشعاري ومقالاتي الأسبوعية في الصحف القطرية. لقد كان عالم واسع ذو ثراء إجتماعي وعائلي لا حدود للخيال فيه.

كم كان صعباً على والديّ الانتقال من منزل العمر الذي بدأت فيه قصة حياتهم لأكثر من 45 عاماً. كان بيتاً صغيراً ثم تم توسعته ليضم أول الأحداث بحلوها ومرّها. كأول عيدميلاد وأول خطوة لطفل، أول زواج وأول حفيدة، أول نقاش وأول شجار وغيرها. البيت الذي ضم أحلامنا وطموحاتنا، وضحكاتنا وبكاءنا، طفولة أبناءنا. هذه الطقوس الاعتيادية رغم تكرارها إلا أنها تعد تجربة مهمة للروح يجب خوضها بمرارتها وحزنها وفرحها، لخلق الذكريات التي من شأنها أن تجعل أيامنا كأحداث حكاية مليئة بدفئ المشاعر تُدلل حواسنا، نرويها لأبنائنا ونثري بها حياتهم ومخيلتهم.

ضمت منطقة المنتزة منزل والدي ومنزل عمي عبدلله (رحمه الله) جارنا من جهة، ومقابلنا من الجهة الأخرى منزل جدتي (رحمها الله)، ومقابلها منزل عمي علي. مسجد سارة الأبيض والجمعية، ولا يبعد عنا المركز والمعروف بالسنتر (أول مجمع تجاري بالدوحة) ومحل بارتي مينيا للاحتفالات والمركز الثقافي الفرنسي، لقد استمتعتنا بعمل المقالب مع والدنا لسيارات ضيوف هذا المركز والتي كانت تقف أمام منزلنا. اعتبرت هذه المنطقة جميلة وهادئة ومثالية للسكن، حيث تستكين الروح وتركن من صخب الحياة. كنا نذهب إلى بيوت جدتي وأعمامي والجيران والجمعية مشياً على الأقدام، كنا نستقبلهم في بيتنا. وكما استمتعنا بتبادل أطراف الحديث عند أبواب البيوت. ومع التطور العمراني والمجتمعي، أضحت المنطقة الآن عمارات سكنية ومحلات تجارية مكتظة بالسكان. تغيرت ملامح المنطقة فتأثرت جودة الحياة اليومية في الفرجان، مما أدى إلى هجرة أهلها.

ذهبت منذ بضعة أيام لأودعه فانتقلت في الزمن بذاكرتي لعمر اشتقت إليه، لزمن غمر حواسي بالدفء والحنان. مع مرور الزمن، لا يعود البيت مكانًا ولا جدراناً تحيط بنا، بل أذرع تحتضننا بكل حب وحنان. يُصبح المكان ذكرى وذاكرة: ترحل معالمه إلى الذاكرة، وأخباره وحكاياته إلى الذكرى. وبالرغم من أن البيوت القديمة تهرم، إلا أنها تستمد الحياة من الحب الذي يكنّه ساكنيها وزائريها. وبالعلاقة الوطيدة التي تربطها بهم تعيش البيوت أزهى أيامها.


لكل غرفة وممر وزاوية بهذا البيت حكاية خاصة. انتقلت بين غرفه وممراته فاسترجعت ذكريات غضب والدي علينا، فترتسم في وجهي ابتسامة عريضة ويقفز لها قلبي فرحاً. والجمعات العائلية الممتعة والحفلات التي استضافت شخصيات مهمة كسفراء دول ورائد الفضاء آلان شيبارد. البيت الذي احتضن بكل دفء ومودة عائلتنا الممتدة من الكويت خلال أزمة الغزو العراقي، كنا نفرش سفرة الطعام على امتداد حشيش الحديقة لتضم كل يوم 30 شخصاً أو أكثر. لقد ظل هذا المنزل المكان الآمن والحضن الدافئ، الذي نتوق للرجوع إليه بعد السفر للعطلات أو للدراسة، وعندما تزوجنا وانتقلنا لمنزل العمر الخاص فينا.

أثارت هذه الزيارة مشاعر وأحاسيس مختلفة شكّلت وبكل فخر شخصيتنا ومصدر قوّتنا. حكايات بحلوها ومرّها خالدة في الذاكرة والقلوب، لم نعرف قيمتها الحقيقيّة إلا عندما باتت في أعماق الذاكرة. والاستمتاع باسترجاع هذه الذكريات بكل تفاصيلها بشوق لا يمكن إخفائه مع أولئك الأشخاص الذين شاركونا تلك الأيام لها نكهة خاصة وشعوراً جميلاً. نسترجع تلك الذكريات الجميلة لكي نعرف قدر من نحب، ومكانته لدينا بصورة أكثر ممّا كنا نتوقع. فكم هو جميل أن ترى جمال بيتك بقلبك قبل عينيك، وتشعر بحنانه وقيمته في عيون أبنائك.

“Home is where love resides, memories are created, friends always belong, and laughter never ends.”

ولاشك أن اختيار تصميم المنزل وديكوراته يستلهم من ذكريات الطفولة ليُلهم حياة عائلية متكاملة، وينسجم مع مشاعر حميمية دافئة. ليصبح ألبوماً من الذكريات يحكي أجمل الحكايات المتعلقة بك وبعائلتك وبوطنك. فقد احتوى بيتنا على قطع تذكارية وأنتيكية وصور عائلية ولوحات فنية وقطع تاريخية جمعها والديّ خلال رحلة حياتهم وأسفارهم. واحتفظوا لنا بأشياء من أيام طفولتنا لها ذكرى جميلة.

آخر البيالة: حين نمرّ بالأماكن التي تحمل الكثير من الذكريات، ونقف أمام كل زاوية مسترجعين شريط الذكريات بحلوها ومرّها. نحن لا نشتاق لتلك الأوقات فقط بل نشتـاق لأنفسنا، وكيف كنا حين ذاك. نشتاق أن نعود لتلك التصرفات البريئة والبسيطة من جديـد. نشتاق لذاتنا أكثر من الأماكن.