﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحج: 27].
الروح مشتاقة للقياك يالله بعد انقطاع طويل، فهوت فؤادي متضرعة مناجية لبيتك العتيق في شهرك الفضيل. حيث لا توجد كلمات تصف بهائك وهدوءك ياخيـر بقاع الأرض وملتقى العباد، فأنت البلد الأمين الذي يُّساق إليه الخير والرزق من كل مكان، مصدقاً لقوله تعالى واستجابة لدعوة إبراهيم الخليل عليه السلام.
﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم: 37].
فأمانيي مع الله حقائق لأنه سميع مجيب الدعاء، بصير بالأفعال، عليم بالنوايا، غفور رحيم كريم,: ﴿إِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [سورة البقرة:186]. وأروع مافي السجود إننا نهمس في أذن الأرض ليسمعنا من في السماء. وبالرغم من أنه على العرش استوى فوق سابع سماء، إلا أنه أقرب إلينا من حبل الوريد.
كُل الدول وإن جلّت محاسنها ليست كمكة إجلالاً وتعظيماً. لديار الله مضيت، فطاب اللقاء وقرّت العيون ببلوغ البيت الحرام. فيارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وكريم سلطانك على تمام العمره. فكم احتجت لأن أطرق باب بيتك لأصمد إليك، لأعيد وجهة بويصلة حياتي تجاهك، وأجبر خاطري بعفوك ومغفرتك، وأروي قلبي بدفء وسكينة الإيمان. لبيك اللهم لبيك، دخلت الميقات شوقاً، قد جئتك وناصيتي بيدك من فج عتيق لأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك بأن تقبل عمرتي وتستجيب دعوتي وتحتسب لي توبة.
ياأم المدائن، البديع ميّزك بالعديد من الفضائل: فأنت أحبّ البقاع إلى الله القدوس ورسوله، والبلد الذي أقسم به فقال: ﴿لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَد * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَد﴾ [البلد: 1-2]. وقول محمد عليه الصلاة والسلام: (واللَّهِ إنَّكِ لخيرُ أرضِ اللَّهِ، وأحبُّ أرضِ اللَّهِ إلى اللَّهِ، ولولا أنِّي أُخرِجتُ منكِ ما خرجتُ)، وقوله: (ما أطيبَكِ من بلَدٍ وأحبَّكِ إلَيَّ، ولولا أنَّ قومِي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيرَكِ).
وكيف لا نحبك وأنت قِبلتنا وقبلة أبينا إبراهيم، لقول القدير: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ﴾ [البقرة: 145]. إنه لمشهد يسعد له القلب ويقشعرّ له البدن عندما ينادي الإمام "استووا واعتدلوا"، فنستقيم ونساوي الصفوف، ملايين المسلمين من شتى أقطار العالم وبشتى اللغات متحدين تحت راية التوحيد، نصلي بتواضع وخشوع بكل آمان واطمئنان. وكيف لنا أن لا نطمئن ونحن لا نحتاج لأي موعد مسبق معك ياسميع، ف ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5]. اسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، فاغمرني يالله بعطفك وعفوك، وابعد عني الرياء والكبرياء.
وقد أضافك يامكة الله سبحانه إلى نفسه، فقال: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [الحج: 26]. فاقتضت هذه الإضافة الخاصة من القداسة والإجلال والتعظيم والمحبة في جعلك مثابة للناس، أي: يرجعون إليك باشتياق على تعاقب الأعوام، لقوله سبحانه: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [البقرة: 125]. فأنت الحرم الآمن لكل من دخلك لا يُغِير عليهم عدو فيك. مُحرم فيك الصيد والقتال ولا يمكن للدجال من دخولك، فيما رواه أنس بن مالك عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ليسَ مِن بَلَدٍ إلَّا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ، إلَّا مَكَّةَ والمَدِينَةَ، ليسَ له مِن نِقَابِهَا نَقْبٌ، إلَّا عليه المَلَائِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا، ثُمَّ تَرْجُفُ المَدِينَةُ بأَهْلِهَا ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ، فيُخْرِجُ اللَّهُ كُلَّ كَافِرٍ ومُنَافِقٍ].
عندما أنهل من ماء زمزم، وأهنأ بعذوبته ونقاوته، لأروي ظمأ القلب، وأشفي تعب الروح. فهي بئر مقدسة تنبع من نهر في الجنة، حفرها جبريل عليه السلام بجناحه ليغيث نبي الله اسماعيل وأمه، لتكون آية خالدة على مر العصور وسقيا طاهرة لضيوف الرحمن. فقد روى البزار عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام الطعم، وشفاء السقم]. وسميت بهذا الاسم لكثرة مائها، وقيل: لاجتماعها؛ لأنه لما فاض منها الماء على وجه الأرض قالت هاجر للماء: زم زم، أي: اجتمع يا مبارك، فاجتمع فسميت زمزم، وقيل: لأن هاجر زمت بالتراب لئلا يأخذ الماء يمينا وشمالا.
عرفت مكة عبر العصور المختلفة بأكثر من خمسين اسماً، ذُكر العديد منها في القرآن الكريم، فسمّيت مكة في قول الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ [الفتح: 24]، والمراد ببطن مكة: الحديبية. وسمّيت بكة في قوله تعالى: ﴿إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين. فيه آيات بينات مقام إبراهيم﴾، [آل عمران: 96-97].
وقد سمّيت بأم القرى في سورة الأنعام في قوله تعالى ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾، لأنها أشرف البلاد وأطهرها، وكل القرى تابعة لها. وسميت أيضاً بالبلد الأمين في سورة التين في قوله تعالى: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ﴾، كما سميت الكعبة بيتاً (البيت العتيق والبيت الحرام)، من البيتوته وهو المأوى الذي تأوى إليه لتسكن وتستريح.
وعلى هذا فإن أصل تسمية مكة مجهول تقريباً، لكن تعددت الفرضيات حول أصل التسمية، فقيل أنها سميت مكة لأنها تمكّ الجبارين أي تذهب نخوتهم، ويقال أيضاً أنها سمّيت مكّة لازدحام الناس فيها. ويقال أنّ مكّة سمّيت بهذا الاسم لأن العرب في الجاهلية يأتون الكعبة فيمكّون فيها أي يصفّرون صفير "المكّاو"، ويصفّقون بأيديهم إذا طافوا حولها ليتموا حجتهم. ويرى آخرون أنّها سمّيت بكّة لأنه لا يفجر أحد بها أو يعتدي على حرماتها إلا وبكّت عنقه. ويقول البعض أنها سمّيت مكة لأنها كانت مزاراً مقدساً يؤمه الناس من كلّ الأنحاء للتعبد فيه.
آخر البيالة: ونفسي تشتهي مكة .. وتراتيل المعتمرين .. ودموع التائبين .. يابكة .. سأطوف بك سبعاً .. وأسعى سبعاً .. فهنا المسائل تسأل .. والأحزان تغسل .. والهموم تتبدل .. والنفوس ترتوي من ماء زمزم ..