Tuesday, April 23, 2024

وقعت في قلبي آية - الشكر

﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾

ما أقسى هذه الآية وما أعظمه من تحذير. غفلنا عن شكر النعم لأننا اعتدنا استمراريتها. تطلعنا للنعم التي عند غيرنا واستصغرنا ما لدينا ولم نقدرها حق قدرها. قل الشاكرون لنعم الله والمعترفون بفضله، وكثر الشاكون من قلة الحال ونكران النعم. سمع عمر الفاروق رضي الله عنه مرَّة رجلاً يدعو ربَّه فيقول: اللهمَّ اجعلني من القليل، قال عمرُ: ما هذا الدُّعاء؟ قال الرجل: أقصد قوله تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾. فقال عمر رضي الله عنه يخاطب نفسه: (كل الناس أعلم منك يا عمر، اللهمَّ اجعلني من القليل الشَّاكر، لا من الكثير الساهي واللاهي).

تكتمل حياتنا بأشياء وتنقص بأخرى، لأنها الأقدار، يعطي الله كل ذي حقٍ حقه. فلنحيا حياة سعيدة ولنشكر الله على مالدينا لأنها من كرمه، ولا نفكر بما ليس لدينا لأنها من حكمته. ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ﴾ الحسد سوء أدب مع الله، ارض بما قسمه الله لك واشكره على نعمه، تكن أغنى الناس. فالشكر هو الاعتراف بنعم الله الظاهرة والباطنة، والمداومة على الحمد والشكر في كل الأحوال. والشكور صيغة مبالغة من شاكر، قيل الشاكر من يشكر على الرخاء في العطاء والشكور من يشكر على المنع والبلاء. ويعد الشكر عبادة بالقول والعمل معاً، ولذلك كانت أركان الشكر ثلاثة: بالقلب أي الاعتراف بالنعمة باطناً، وباللسان أي التحدث بها ظاهراً، وبالجوارح أي تصريفها في طاعة الله ومرضاته. قال تعالى ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾، والحديث عن النعم مشروط بأن يكون من باب إظهار فضل الله ومنّته، لا من باب الرياء والتفاخر.

إن الحروب الحاصلة في فلسطين والسودان واليمن، والكوارث التي حدثت في سوريا وتركيا والمغرب وليبيا أعطتنا دروساً في تقدير مالدينا من نعم، وأن الحال قد يتبدل في ثواني. الحمدلله على كل نعمة اعتدنا وجودها فنسينا شكرها. ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. هذه النعم تملأ نفسي رضاً بربي وتمنحني شعوراً بالقناعة بما أملك لأعيش براحة وسعادة وطمأنينة. إنها عبادة أكررها بإخلاص مراراً وتكراراً في اليوم والليلة على كل صغيرة وكبيرة، لأنها عبادة حافظة للنعم وظاهرة للامتنان.

الحمد والشكر لله لنعمة الإسلام والفطرة السليمة. الحمد والشكر لله لبيت آمن ومريح وأسرة مطمئنة وحياة كريمة وسعيدة. الحمد والشكر لله على الصحة والعافية، الحمدلله عدد أيامنا التي لا نشكوا فيها. قال رسول الله "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء شكر؛ فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر؛ فكان خيراً له". والله لن أجد أجمل من اختيارات الله لحياتي، لأن كلها تنصب في صالحي. الحمدلله الذي أذهب عني سوء اختياراتي ليجبرني بحسن اختياراته.

وأشكر الله على نعمه عن طريق توظيفها في طاعته، ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ﴾. أي العمل الصالح المتقن خالصاً لوجهه الكريم. فأشكر الله على نعمة المال عن طريق إخراج الزكاة منه والصدقة. فكل رمضان أحرص أن أخرج زكاة الفطر مع أبناء العائلة. كما أصرف المال على أهلي باعتدال دون تبذير أو تقصير. وأشكره على نعمة صحة البدن والجوارح فاسعى في إعمار الأرض بالطريقة التي ترضيه سبحانه وتعالى. وأشكره على نعمة العلم عن طريق السعي لاكتساب ماينفعني والمجتمع والبلد، أحمده على نعمة الأمن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمنًا في سِـرْبه، مُعافًى في جسده، عندهُ قُوتُ يومه، فكأنما حِيزَتْ له الدُّنيا بحذافيرها) أي: كأنما أُعطي الدنيا بأسرها.

أعيش دائما بين يسر وعسر وكلاهما نعمة، ففي اليسر يكون الشكر ﴿وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَۚ﴾، وفي العسر يكون الصبر ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾. وتطيب لي الحياة عندما أسعى فأنجح فأحمد، ثم أسعى فأفشل فأحمد، ثم أُبتلى فاصبر لأحمد، ثم استسلم لمن بيده القدر فيطمئن قلبي فأحمد. لأن الله تعالى يحب الشاكرين على نعمه، ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۚ﴾ ولذلك ذكرهم بإحسانه إليهم ورعايته لهم، وبفضله عليهم، وحسن بلائه فيهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها). فقد ذكر الله ذلك في مواضع كثيرة في القرآن الكريم، ومنها:

﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾: إن كل ما أصابني من خير أو شر فمن عند الله الوهّاب، راضية بقضاء الله وقدره. فلن تفلت من بين يدي ماساقه الله لأجلي، ولن يفوتني رزقي وإن تأخر.

﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾: اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي ورحمتي. واشكروا لي فيما أنعمت عليكم لأزيدكم وأتمم عليكم نعمتي. وإن كفرتم بي وجحدتم بنعمتي حرمتكم ما أعطيتكم. اللهم لا تجعلني ممن نساك في نعمته ولا يذكرك إلا في شدته، واجعلني قريباً منك شاكراً لك في كل الظروف.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾: لقد حلل الله لنا من طيبات ما خلق لنستمتع به من غير إسراف وتبذير لنشكره ونعبده ونطيعه فيما يأمرنا وينهانا به. ربنا أغننا من حَلالك عن حرامك وأعنا على طاعتك وذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾: أي أن النعمة موصولة بالشكر، والشكر متعلق بالزيادة، لن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد، وهو وعدٌ رباني. ومن أعظم ما يعين على عبادة الشكر الاستعانةُ بالله فيها.

﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾: فلنتأمل حال نبينا سليمان عليه السلام، أعظم الناس مُلكًا في الدنيا، حين استشعر نعمة الله عليه، فسأله أن يُلهمه الشكر والمداومة عليه وأن يوفقه للعمل الصالح. فالحمد لله حمداً دائماً أبداً كما يحب ويرضى.

قال ابن القيم رحمه الله: (فإن النعم نوعان: مستمرة ومتجددة. فالمستمرة شكرها بالعبادات والطاعات، والمتجددة شرع لها سجود الشكر). ولو لم تكن عبادة الشكر ثقيلةً على الناس، وعظيمة الشأن عند الله، لما كانت وصية الرسول صلى الله عليه وسلم. فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه: (أنَّ رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّمَ أخذَ بيدِهِ، وقالَ: يا مُعاذُ، واللَّهِ إنِّي لأحبُّكَ، واللَّهِ إنِّي لأحبُّك، فقالَ: أوصيكَ يا معاذُ لا تدَعنَّ في دُبُرَ كلِّ صلاةٍ تقولُ: اللَّهمَّ أعنِّي على ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسنِ عبادتِكَ). اللهم ألَهْمِنا شكرَ نِعَمِك، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

آخر البيالة: اللهمّ لك الحمد كلّه، ولك الشكر كلّه، وإليك يرجع الأمر كلّه علانيّته وسرّه، فأهل أنت أن تحمد، وأهل أنت أن تعبد، وأنت على كلّ شيءٍ قدير. اللهمّ لك الحمد حتّى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرّضا، ولك الحمد على كلّ حال. اللهم قرب كل ماتراه خيراً لي وابعد عني ماتراه شراً لي وارزقني رزقاً يزيدني لك شكراً وبك عمن سواك غنىً.