Wednesday, May 29, 2024

شغف العمل والاحتراق الوظيفي

التاريخ المتوقع للتقاعد: 21 سبتمبر 2039، بعد إتمام 37 سنة عمل في خدمة الوطن. مسيرة حافلة بالإنجازات وتمكنت من خلالها اكتساب الخبرات وتنمية المهارات العملية وتكوين شبكة من المعارف.


لاحظت في الآونة الأخيرة تذمر الكثير من الموظفين من العمل وتطلعهم للتقاعد. والسبب من ذلك الافتقار للرضا الوظيفي، عندما تُصبح الحياة الوظيفية فيلماً روتينياً بلا نهاية. قد تكون لديه نفس المهام اليومية التي لا تحفزه للابتكار والابداع وتحمل المسؤولية، ولا ترقى لطموحه ومستواه المهني، أو عدم تكليفه بأي مهمة على الإطلاق لانعدام الثقة والدعم المهني. والسبب الأخر الانهاك الوظيفي، 
المعاناة من كثرة المهام الوظيفية المكلفة وقلت الوقت. فبعض جهات العمل عبارة بيئة طاردة يُضطهد فيها الموظف المجتهد. فتولّد فينا أبشع الصفات، وتقتل فينا الطموح والاجتهاد، وعدم القدرة على تحقيق التوازن بين الحياة الشخصية والوظيفية. مما يؤدي إلى الشعور بالإرهاق جسدياً وعاطفياً، فينتج عنه العجز والفتور وانعدام الدافعية، مما يؤثر على كفاءة الانتاج وعدم الاهتمام.

قد يتقبل البعض هذه الظروف كما هي دون السعي لتغييرها، فيعتبر بطالة مقنعة. إلا أن هناك الكثير، كما فعلت أنا، العمل على تغيير هذه الظروف ومن أهمها تغيير بيئة العمل. فالنجاح في وظيفة أو مشروع أجد نفسي فيه واستمتع به ألذ طعماً من النجاح في وظيفة روتينية مرهقة فرضتها عليّ الظروف. لتتحقق لدي المعادلة السليمة في التوازن بين الحياة الشخصية والعملية.

على الرغم من وجود مبادرة التوطين (التقطير) للاستثمار في رأس المال البشري الوطني وتطويره، من خلال مجموعة متنوعة من البرامج التدريبية تتناسب مع متطلبات التنمية المهنية للشركة وللدولة، وتقديم الحوافز المناسبة أهمها الأمان والنمو الوظيفي وتحسين بيئة العمل. إلا أننا نرى الكثير من جهات العمل تسعى لوضع العراقيل أمام الكفاءات والخبرات الوطنية القادرة على العطاء والابداع والابتكار وترهقها بالعمل الروتيني فتقتل لديهم الطموح والشغف والانتاجية. وتعيين موظفين أجانب في المناصب القيادية بدل منهم، واقتصار الترقيات والتقييم الممتاز لفئة معينة دون غيرها.

إنني مؤمنة تماماً بأن الكوادر الوطنية قادرة على حمل المسؤولية والابداع في إنجاز مهامهم الوظيفية إذا تم توظيفها بالمكان المناسب وبالطريقة الصحيحة. والنضج الذي نحن به اليوم، ‏حصاد تلك الأيام ‏والتجارب التي ظننا أنها لن تمضي. فأتمنى من المؤسسات العمل على توطين الكوادر البشرية في الوظيفة المناسبة لمؤهلاتهم وتطويرهم.

بلا شك رحلة التقاعد ليست نهاية المطاف إنما بداية جميلة لتحقيق الكثير من الأهداف والمشاريع التي طالما تأجلت لضيق الوقت. بداية جديدة للقيام بالكثير بطريقة جديدة ومبتكرة قائمة على الخبرة والمعرفة. ابحثوا عما يبعث السرور والرضا في أنفسكم وحققوه بأريحية تامّة وبشغف كبير وبقناعة حقيقيّة. فحياتنا مليئة بالفرص للاستمتاع بالحياة بحلوها ومرها، فرص لإنجاز وتحقيق الأحلام والانجازات سواء كانت صغيرة أو عملاقة.

فالخبرات ثروة وطنية لا تتقاعد، واستثمار المُتقاعدين وتوظيف خبراتهم لتطور ونمو هذا الوطن. قال أمير الشعراء (كن رجلاً إذا أتوا من بعده يقولون مر وهذا الآثر). المهم في النهاية انك لا تتوقف عن التجديد في حياتك، وعن المساهمة الفعّالة في حياة المجتمع.

آخر البيالة: هناك ينبوع في داخلك، فلا تتجول بدلو فارغ. أينما زرعك الله فأزهر، لأنك مدين للدنيا بإبراز جانبك الرائع الذي أبقيته طويلاً في الظل ظنًا منك أنه يعنيك وحدك، وأن أثره لن يتعداك. لا تطفئ نفسك؛ فأنت شعلة ممتلئة بالمحبة والبهجة والأمل. والمساحة التي تشغلها ليست مرتبطة بحيز وجودك فقط، أعبر بأفعالك الآفاق وأنثر عبيرك في مجتمعك. فالحياة ليست بحثاً عن الذات، ولكنها رحلة لصنع الذات واخلق من نفسك شيئاً يصعب تقليده.

Wednesday, May 15, 2024

#أمة_اقرأ_وجدت_لتقرأ



من أجمل الأوقات تلك التي أقضيها في قراءة كتاب مع بيالة كرك. فقد بدأت علاقتي بالكتاب أكثر من 25 سنة، عندما شجعتني عائلتي على قراءة الروايات الأجنبية لاكتساب اللغة وتنمية مهارات التعبير، لتتطور وتصبح هواية احرص على ممارستها بشكل يومي، واشجع أبنائي على ممارستها. وحرصت على تنويع الكتب والروايات التي أقرأها على أن تشمل اللغتين العربية والانجليزية، لأغرف من عين المعرفة والأدب ملكات التعبير وأساليب الكتابة ومفردات اللغة، وتطوير مهارات التفكير والتحليل الناقد. مما سهّل علي التعبير عن رأيي وشعوري بأسلوب مشوّق وسلس.

فالكتب نوافذ تُفتح على العالم، ولها القدرة على تغيير الحياة. فهي أعز أصدقائي وتدفعني للمغامرة ورحلة لاكتشاف الذات ومعرفة الآخرين. وهي الميراث الحقيقي للبشرية، تحمل في طياتها الفكر والمعرفة الإنسانية في مراحلها المختلفة. قال عباس العقاد "القراءة وحدها هي التي تعطي الإنسان الواحد أكثر من حياة واحدة، لأنها تزيد هذه الحياة عمقاً، وإن كانت لا تطيلها بمقدار الحساب". فالقراءة حالة وعي وليست مظهر للتباهي، وهي من أبسط وأنفع طرق التطوير الذاتي. نقرأ لنبدع ونحيا معاً.

والقراءة سياحة للعقل وغذاء للروح ومتعة للنفس. تعطينا تذكرة سفر في رحلة طويلة معالمها الجغرافية العلوم والمعرفة والآداب والتاريخ. نحلق معها لأماكن وأزمنة مختلفة، لنتوسع في مجالات التدبر والتفكر والخيال. ننهل من ينبوع المعرفة ونستقي من خبرات وتجارب وثقافات الشعوب. "فالكتب هي السّفن التي تمر عبر بحار الوقت العظمى" -فرانسيس.

والكتب هي ثروة العالم المخزونة وأفضل إرث للأجيال والأمم، وهي استثمار للذات الإنسانية. فأنا أؤمن بقوة الكتب في تغيير وتنمية المجتمعات. فبقدر ما نقرأ وننوع من قراءاتنا بقدر ما نكتسب خبرات إنسانية متنوعة، ونثري ثقافتنا ولغتنا. نحفز عقولنا على التطوير واكتساب مهارات جديدة ومرونة ذهنية وفكرية، وننمي مخيلتنا. وكيف لنا ألّا نولي اهتماماً بالقراءة وكانت أولى آيات القرآن: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾، والتي أبرزت حقيقة وأهمية القراءة والتعلم، وجعلها سبيلاً لمعرفة حقيقة الحياة والتعرف إلى خالقها والتفكر في كل ما أبدع وصوّر.

أن تُولد محباً للقراءة؛ فذلك أسمى درجات الحظ، أما أن تُكسب نفسك تلك العادة، فذلك أسمى درجات التطور. -ضياء الدين خليفة. بادر بالقراءة واجعل الكتاب صديقك الذي لا يتخلى عنك ويقف معك عند الحاجة. القراءة متعة وشغف، إبحث عن اهتماماتك وميولك في كتاب واحد واقرأه، ستفاجأ بكمية المعلومات التي استفدت منها، وستكون بداية التطوير لك. "وخير جليس في الزمان كتاب" - المتنبي.

ومع وجود وسائل التواصل الاجتماعي، حرصت على تكوين شبكة من المتابعين الذين يشاركونني نفس الأهداف والهوايات. نتنافس لتقديم الأفضل لأنفسنا ووطننا. ننمّي ملكات الفكر والعلم عبر التحاور والنقد البنّاء، ونتناقش في الآراء والقضايا التي تهمّنا، والكتب والمقالات التي نقرأها، والفنون التي نراها أو نسمعها، والأنشطة والفعاليات التي نحضرها. وإن اختلفنا في الآراء فهو لا يعني أننا مختلفون في كل شيء. كما يقول المثل (الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية) بل يثري الحوار ويسهم في تقوية العلاقات. فحسن المناقشة والاستماع ثقافة لا يتقنها الجميع. وأناقة اللسان هي ترجمة لأناقة الفكر، فعند الحوار لا ترفع صوتك بل أرفع مستوى كلماتك.

وبالنسبة لي تعد معارض الكتب والمكتبات حدائق المعرفة والثقافة، ليس لها سقف يحدني من التحليق في سماء الخيال. تتزين سماءها بالفعاليات والندوات والأنشطة، لتتيح لنا ملاذاً للتبادل الفكري والنقاش الثقافي، ومنصة لتجديد وإثراء المكتبة الشخصية. تستهدف إرساء أسس ثقافية راقية لتعزيز قيمة الكتاب في المجتمع وتنمية الوعي بأهمية القراءة. ساعدتني على تطوير قدراتي الذهنية أهمها رفع مستوى التركيز والانتباه وتقوية الذاكرة. وهي وسيلتي للترفيه وقضاء وقت الانتظار. ففي معارض الكتب متعة التجول والمطالعة، فرصة للالتقاء بالكاتب والناشر لنتناقش معه كتاب معين قد يعجبك فتقتنيه.

وقد رسّخ معرض الدوحة الدولي للكتاب مكانته، ليس كمحطة لبيع وشراء أحدث إصدارات الكتب والروايات، بل كنافذة لمحبي العلم والمعرفة وحافز للبحث عنهما وبيئة عملية مبتكرة معززة للفكر والحوار وتبادل الآراء بين كافة شرائح المجتمع. كما يعد ساحة تفاعلية لتلاقي الثقافات والقيم الإنسانية، تشهد حراكًا ثقافيًّا ومعرفيًّا وتشكّل نقلة نوعية في اتجاهات القراءة والاطلاع. فاستطاع أن يخلق جيلاً قارئاً يسعى لتنمية ذائقته الفكرية، ومؤلفاً واثقاً من موهبته مؤمناً بأفكاره.

ولقد تنوعت المكتبات في وطننا العربي لتكون الجسر الواصل بين الثقافة وفئات المجتمع، والقوة الدافعة للمسيرة الثقافية والتعليمية وتبادل المعرفة ودعم البحوث والدراسات، عن طريق الشراكة مع المؤسسات التعليمية والحكومية والثقافية. ومع دورها التقليدي في نشر المعرفة وصقل ملكات الإبداع وتعزيز الابتكار، سعت لأن تكون منصة تعليمية متقدمة تكنولوجياً وثقافياً، تُقام بها الحلقات النقاشية والندوات الثقافية والعلمية والأدبية والورش العملية متنوعة، وأن تكون ملتقى الترفيه في عالم المعرفة والأدب، وبيئة عملية مبتكرة تتيح فرصاً متنوعة للتعليم المستمر وتطوير المهارات والقدرات الذاتية، واكتساب الخبرات وضمان تنوعها واستدامتها.

وأود أن يتم تفعيل مبادرة لكتبنا حياة (أعد الحياة لكتاب). فهي مبادرة متميزة ومبتكرة مبادرة لتبادل الكتب المستعملة التي انتهينا من قراءتها، حيث تغرس حب التبادل لنحفظ قيمته بدلاً من حفظ هذه الكتب على الرفوف. فأنا أحب أن أتبادل الكتب مع عشّاق القراءة خصوصاً تلك التي تحمل ملاحظات قارئها السابق، سواء كان صديقاً أو غريباً، لأنها تبيّن تفاعل القارئ بأحداث القصة.
كل كتاب تعيش فيه روح ما. روح من ألّفه، وأرواح من قرأوه، وأرواح من عاشوا وحلموا بفضله. - Carlos Ruiz Zafon

أخر البيالة: يمكنني الاعتماد على الكتب فهي تبقى صامتة عندما يكون ذلك ضرورياً، وتتحدث إلي عند الحاجة. علمتني أدب الاستماع، فالقارئ لا يتكلم وإنّما يستمع طويلاً وعميقاً للكتاب.