Friday, December 27, 2024

وقعت في قلبي آية - اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا





﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾

تبين الآية مقدار حب الرسول -صلى الله عليه وسلم- ورأفته بقومه وعشيرته. وجاءت هذه الشكوى على لسان النبيِ المصطفى بلهجة غاية في الأسى، لتدلُّ على عِظَم هذه المعصية وخطورتها على المسلم يوم القيامة. وقد اختلف أهل التأويل في تفسير هذه الآية، إلا أن الأرجح أنها نزلت على المشركين الذين زعموا أن القرآن سحر وشعر، فأعرضوا عنه ولم يسمعوا له.

إنه من المحزن إننا بتنا في زمن هجر للقرآن والزهد فيه، هجر قراءته وسماعه، هجر تدبره وتفهم معانيه والعمل به، هجر الاستشفاء والتداوي به من أمراض القلوب وقسوتها. ففي الحديث عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ الذي ليس في جوفِه شيءٌ من القرآنِ كالبيتِ الْخَرِبِ). وأجمل وصف للقرآن قول الصحابي عثمان بن عفان رضي الله عنه: "لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من كلام الله"؛ أيّ لو كانت القلوب طاهرة، لاستغنى بالقرآن عن كل شيء دنيوي. إننا نتعافى بالقرآن من حيث لا نشعر، ونأخذ منه بقدر ما نحتاج من البركة والنور والفتح والتيسير. وصدق الله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ﴾.

لقد نزل هذا القرآن ليكون منهج حياة ودستور أمة. دعوة لأمة محمد للتفكّر والتدبر في كتاب ربّهم، والاستشعار بأنه رسائل شخصية أرسَلَها الله إلى كل مسلم. به أستشعر حنان الله عليّ، والأُنس به في كل خطوة وموقف. هو الحصن المنيع لإيماني وثباتي، ألجأ إليه في السراء قبل الضراء، لأجد فيه البركة والسكينة والطمأنينة وجبر لكل خاطر. هو المعين الذي يقوي عزيمتي أينما ذهبت. فلن يفهمني أحد في هذا الوجود مهما كان مثل خالقي، فقلبي وعقلي وكل ما فيني مكشوفٌ بين يديه. أجاهد بعزيمة وإصرار لجعله جزءاً من حياتي لا جزءاً من فراغي، من خلال ورد يومي لأتدبر في أحكامه وقصصه والعمل بمقتضاها.

﴿يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾، خذه إلى أعماق روحك، ويكن النور الذي يضيء لك طريقك، ليعيد كل ما في قلبك وعقلك إلى وضعه الأقوم والثبات عليه، لقوله تعالى: ﴿إِنّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾. اجتهد في تعلمه، لأنه منبع للعلوم المتنوعة والمواعظ التربوية لكل فرد في هذه الأمة، ووسيلة توجيه تعينك على العيش حياة طيبة مباركة، وكيفية التعامل مع متغيرات ومتطلبات الحياة، والقدرة على ترتيب الأولويات واليسر في تحقيق الأعمال. لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾، وقوله: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، وغير ذلك الكثير من الآيات التي تحضُّ على التعلم والتدبّر والتفكّر. قال رسول الله: (خيركم من تعلم القرآن وعلّمه)، يا رب أسألك لذة صحبته، وألا يمر على قلبي وسمعي مروراً عابراً دون أن استشعر به. اللهم علّمنا منه ما جهلنا، وذكّرنا منه ما نسينا. قال الله في ذلك: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾. فالإنسان أكثر المخلوقات جدلا، لذلك نزل القرآن شاملاً كاملاً. نعيش حياتنا والله يكلمنا في كل لحظة. قال السعدي رحمه الله: سمى الله القرآن روحاً، لأن الروح يحيا به الجسد، والقرآن تحيا به القلوب والأرواح. فيه نجد للفرح آية وللحزن آية وللصبر آية وللتوفيق آية. كلما قرآنا القرآن، امتلأت نفوسنا بفوائد كثيرة ومتنوعة. كلما تدبرنا في فهم القرآن، كلما زادت معرفتنا واتضحت لنا وقفات عدة تبهرنا من كلام العزيز العليم.

اجتمعت في القران العظيم فضائل مهمة، وهي: أنه أفضل الكتب السماوية، نزل به أفضل الرسل وأقواهم، جبريل الأمين، على أفضل الخلق محمد (صلى الله عليه وسلم)، لأفضل أمة أخرجت للناس، وبأفضل الألسنة وأفصحها، وهو اللسان العربي المبين. وتتجلى عظمة القران الكريم من عظمة مُنزِّله جلّ جلاله، لقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ *نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ﴾. فوصفه بالعظيم في قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾، آثره بوقتك يؤثرك بعظيم فضله، ويأتيك شفيعاً يوم القيامة. وفي قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ يبين لنا علو شأن القرآن وحكمته. ومن ثناء الله تعالى على القران أن وصفه بأنه كتاب مبارك، يبارك لك في وقتك وعلمك وعملك، في قوله تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾. فبركة هذا الكتاب تمتدّ إلى يوم القيامة، وعطاؤه نامٍ لا ينفد، يواكِبُ الحياة بهذا العطاء. إن التفاصيل اليومية التي نختار أن نستهل بها يومنا، كالنية الطيّبة والابتسامة والسعي لعمل الخير وإنجاز الأهداف وقراءة القرآن والاستماع له، تنعكس على بقية يومنا على صور بركة وطمأنينة وسلام.

من إعجازه أنّ الله تعالى تحدّى الإنسَ والجنَّ، الذين ميزهم الله بالعقل والفكر والاختيار، بأن يأتوا بمثله أو بعشرِ سورٍ من مثله، ما استطاعوا وإن تظاهروا على ذلك. قال تعالى: ﴿قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾. وهو قرآن مستقيم لا اعوجاج فيه، لقوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا *قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَناً﴾. ونفي الله التناقض والاختلاف عن آياته في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾. وخشوع الجبال وتصدُّعها، فيها بيانُ حقيقة تأثير القران في المخلوقات والجماد، لقوله تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾. فالاستماع للقرآن يلين القلب ويهذبه ويؤدبه، ويشرح الصدر من كل هم وغم، ليتجرع المسلم تبشيرات إيجابية تُطمئِن الروح.

آخر البيالة: ولا يزال قارئ القرآن في جنة من الدنيا مادام يسقي قلبه بكلام الله، فإنه رزق من الله فتمسك به واحمد الله على عظيم رزقك. سل الله قلباً يحب القرآن ويشتاق له. جدد عهدك مع كتاب الله، واجعل لك موعداً ثابتاً معه كلما جدد الله لك يوماً من عمرك مهما كان يومك مزدحماً ومثقلاً بالأعباء ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ۚ﴾، ثم انطلق في دروب الحياة مطمئناً.