Friday, May 9, 2025

مكاين الروح


مكاين الروح هو ما يعيش في الروح من أشخاص وأماكن، ذكريات ومواقف، أفكار وأحلام ودوافع، وغيرها. الروح مثل المكاين تحتاج إلى زيت حتى تستمرفي العطاء، كيف تغذي المكاين ولا تغذي الروح. ما هو متمكّن في الروح يحتاج إلى حنان وحب وإيمان لتظل حية مزدهرة، تنتج وترتقي.

أسعدني حضور العرض الخاص للفيلم الوثائقي (مكاين الروح)، للمخرجة حميدة عيسى الكواري. رسالة حب لوالدتها ووطنها والطبيعة الأم وأخوها الذي توفى مؤخراً. استلهمت عنوان الفيلم من نهّام الغواصين القطريين ومن بينهم جدها غانم الله يرحمه ويغفر له. وأنا أبحث بين مواقع الإنترنت عن فن النهّام أو النهمة، استمعت إلى مكاين الروح وكان لها الأثر العميق في روحي. وفن النهمة من الفنون الشعبية البحرية، يُعد وقود الحياة البحرية على السفينة، لإلهام الإيمان والشجاعة بين البحّارة والغواصين ويبث فيهم الهمّة والنشاط لمواصلة العمل بروح جماعية بجد واجتهاد وحماس، دون كلل أو ملل. ومن ناحية أخرى، يعبّر عن الألم كشكل من أشكال العزاء وتخفيف عناء السفر في البحر ومشقّة الغوص، كما يخفّف عنهم فراق الأهل لأشهر طويلة.

لا حكاية تروى إلا إذا عزفها الألم 

خسارة شخص عزيز يترك فراغاً في الروح، لا تعرف كيف تملأه. لا تفكر بملء الفراغ الذي تركوه وراءهم، تعلّم كيف تنمو حوله، فالنمو يتضمن الألم. اخلق مساحة حوله لشيءٍ جديد وجميل. لديك حياةٌ واحدةٌ فقط، عليك أن تفعل كل ما في وسعك لتجعلها ذات قيمة. انهض وأشرق بنورٍ ساطع، اختر طريقك وصوتك والتزم به أينما يأخذك.

كانت لنا مع العم عيسى وعائلته ذكريات عائلية لا تقدر بثمن. أمتعها في الشاليه على البحر وأيدينا وأرجلنا مغطاة بالرمل، مغامرات سعيدة على البطابط ولعب الخشيشة وركوب الخيل. نفترش الأرض لتناول وجبات الطعام، نتسامر حول شب الضو. من خلالها أيقنت أن الحياة مزيج من عناصر مترابطة يتأثر بعضها ببعض. علاقات أسرية واجتماعية، راحة بال، صحة جسد، سلامة نفس، هوايات لا حصر لها، عبادة وتأمل، اقتداء وتأثير. الحياة ملوّنة ومتعددة الأوجه والجوانب. قد تكون إنجازاتك اليومية صغيرة لكن تأثيرها أكبر وأعظم مما تتصور. ابتسامتك، صبرك، حبك لعائلتك هو ما يجعل كل شيء أجمل. أنت عظيم حتى في أبسط لحظاتك وأفعالك.

فيلم مكاين الروح عبارة عن مونتاج لشريط فيلم قديم، بطولة وتصوير والدتها فريال. ارتكز فيها على العائلة، علاقة الأب والأم بأبنائهم، براءة الأطفال، وبساطة الأيام. مشاهدة الفيلم جعلتني أتوقف للحظات وأعيد التفكير في تلك العادات اليومية التي نقوم بها دون وعي، بعد أن تحولت إلى روتين ممل جامد. جعلتني أُثمّن وجود أهلي وأحبابي فيها.

الحياة فيض من الذكريات. لا تريد لتلك الذكريات أن تنمحي من ذاكرتك، لتكون الأفلام والصور ثروة الذكريات، لنتذكرها ونعتز بها دائمًا ونصونها للأبد. الحياة تستحق أن نعيشها بشغف، لنعيد إلى تلك اللحظات روحها ونبضها بإضافة لمسة جديدة، فكرة مبتكرة أو القيام بها بطريقة مختلفة. لنجعل من تفاصيلها الصغيرة مصدرًا للسعادة. حينها، تتحول أيامنا العادية إلى لحظات غير عادية.

عُرض الفيلم في ليوان، أستوديوهات ومختبرات التصميم. الذي كان في السابق مدرسة بنات الدوحة (أم المؤمنين)، أول مدرسة للبنات في قطر. يرجع بناؤها إلى منتصف القرن الماضي في مشيرب قلب الدوحة. شُيّدت هذه المؤسسة التاريخية على الطراز الحديث لمنتصف القرن العشرين، يتميز ببساطة تفاصيله والمساحات المفتوحة، ويتكون من طابقين متصلين عبر فناء مركزي.

أُغلقت المدرسة أبوابها مع نهاية العام الدراسي 2005 تاركةً وراءها خمسة عقود من إرث خالد للمجتمع المحلي. وفي عام 2019، بدأ ترميم المبنى مع احتفاظه بالعناصر المعمارية والتصميمات الأصلية تحت إشراف متاحف قطر، ليصبح مركزًا إبداعيًا لخدمة ودعم المصممين والفنانين المبدعين في الدوحة عبر توفير مساحة فريدة متعددة الوظائف، وبيئة تعليمية تعزز التجربة والتعاون والتواصل. أطلق عليه اسم ليوان نسبة لفناء المبنى المظلل الهادئ، يجتمع فيه الناس.

كان عليّ أن أتعافى داخلياً

اصطحبتنا حميدة خلال الفيلم في رحلتها إلى أقصى بقعة على كوكب الأرض بحثًا عن إجابات لأسئلة روحية لا غنى عنها. استكشفت من خلالها القواسم الروحية المشتركة بين الحب الدافئ الذي تكنّه الأم لأبنائها وما تمنحنا إياه الطبيعة من مشاعر مماثلة. صوّرت حميدة، أول امرأة قطرية تسافر إلى القارة القطبية الجنوبية، كيفية الاتصال العلاجي مع الأرض والطبيعة وأثره على الجوانب الشخصية والروحية والتقاليد والتراث الثقافي غير المادي. باحثة عن الأمل في مستقبل بيئي مستدام والإلهام اللازم لإحداث التغيير الإيجابي.

شعارها خلال هذه الرحلة (الحياة .. الاستكشاف والاكتشاف). قطع الاتصال لإعادة الاتصال مع الذات الداخلية وجوهر الروح والعودة إلى الطبيعة والجذور. هل كانت الرحلة هروب من ألم الخسارة أم البحث عن الذات، أو ربما كلاهما. جهاد النفس في المعركة مع الأنا (عدوي الأول). يجب علينا أن نحارب أنفسنا باستمرار، من أجل البحث عن الحقيقة (الصحوة). تتغيّر نظرتك للحياة عندما تقوم برحلة مثل هذه الرحلة الاستكشافية، لأنك تستطيع أن ترى ما يمكن تحقيقه من أحلام وطموح، والمكان أو الهدف الذي تريد الوصول إليه. المغامرة والاستكشاف شي جميل، على قدر الاستطاعة والطموح.

الطبيعة آية من آيات الله فيها رحمة وخير. ارتبط القطري بالصحراء والبحر منذ القدم. هذا الارتباط يؤنس النفس الحزينة، ويمدها بالهدوء والسكينة، خصوصاً عقب المطر. هذه أرضنا وبلادنا، حلالنا وحلال أبائنا وأجدادنا. نحترمها تزين لنا. نحترم الظل الذي نستريح فيه، نحترم الشجر الذي يُعد وقودنا عندما يجف. يجب علينا التوقف عن استعمار الأرض، فنحن خلفاء الله في الأرض. والعودة إلى التوحيد والروحانية الأصلية في أعماقنا. تعد الصحراء والبحر بالنسبة لنا ميزان فطري وانعكاس الذوات. منها نتعلم الصبر والمسؤولية والاعتماد على النفس، تعلّمنا قيمة المال وقيمة الحاجة وقيمة الكرامة وعزة النفس.

إن كنا قادرين على ترك المحميات لحماية البيئة، لماذا لا نترك أرواحنا تعيش بسلام ونسعى للحفاظ عليها

الصور والأفلام تحكي قصص. هي تاريخ لحياة بسيطة خالية من الهموم والصعاب. هي كنزٌ للذكريات، وذكرياتنا وقود حياتنا اليومية ومحركها. هي السند الذي نتكئ عليه حين نحتاج إلى دعم. هي البوصلة لنمضي قدماً، دونها سنهيم في ضياع. إنها نافذة تُطل على عالم من الراحة والفرح والسكينة. هي لحظة نودّع فيها تعب الأيام وضجيج الحياة. ونستقبل أوقاتًا مليئة بالبساطة والمرح. تجمعنا بأحبتنا، تُعيد لقلوبنا نبض الألفة. تُذكرنا بجمال وبساطة العلاقات الإنسانية، التي أهملناها وسط زحمة الأيام، وتُعيد لنا توازن الحياة.

تعد مؤسسة الدوحة للأفلام منصة الهامة وبيئة إبداعية خصبة لصناعة سينما مستدامة ومتكاملة في قطر تثري الثقافة الفكرية والإنسانية، تطوّر وتعزّز الصناعة الإبداعية المحلية مع مجتمع صناعة الأفلام العالمي من خلال تنظيم ملتقى قمرة الحاضنة السينمائية السنوية بفعالياته وملتقياته المتنوعة. مما نتج عنه تألّق المواهب السينمائية القطرية والعربية، وأفلام ذات مواضيع آسرة تركّز الضوء على جوانب ثقافية متعددة، وتسعى لمعالجة القضايا العالمية الراهنة، وتعيد اكتشاف إنسانيتنا المشتركة.

قالت حميدة: أمي، أفلامك أعظم هدية تركتيها لي. من خلالها درست كل تفاصيلك وعشت جميع لحظات حياتك، وأقدّر هدية وجودك كأم. أفلامك إثبات على وجودك في حياتي، ودليل حبك لي. أنت أساس مكاين روحي. لازلتي تعيشين في داخلي، لم ترحلي. أرواحنا في تواصل دائم، تخاطبيني بلا كلمات. فريال اسم فارسي معناه الجمال والنور، لقد أرشدني إلى رؤية جمال وجودي وألمي وألهمني لاكتشاف نفسي في ظلمة الحزن.

تعلّمت منك يا أمي القوة والشجاعة وحب الحياة، والتحلّي بالأمل والإيمان. عدم الخوف من خوض التجربة، عدم الخوف من الفشل. تعلّمت أن أثق بالبحر، وإن وصفوه بالغدر، لأنه المكان الذي يغذي روحي. تعلّمت أن أعود دائماً إلى الجذور، الأصل. لأتذكر العظمة الإلهية للخلق وأرى ضآلتي.

يعبّر الفيلم عن عالمية التجربة الإنسانية. يعكس تنوع الآراء والاهتمامات والأذواق. كل شخص يرى الحياة من زاويته، ليسعى وراء راحته وسعادته بطريقته الخاصة. قد نتفق أو نختلف، والاختلاف من طبيعة البشر. الأهم هو أن نكتشف ما يجعل حياتنا أفضل. الاختلاف لا يعني التباعد، بل فرصة للتفاهم والتعايش بطريقة تنعكس إيجابيًا على حياتنا.

{كن ممتناً لكل من مرّ في حياتك. لأنّ كلّ من يمرّ بك يحمل إشارة من الله إليك}. - ‏جلال الدين الرومي

أمي: رسمتِ فن روحي، كتبت لي قصة الأطفال وأطلقت عليها اسم (النخلة الشجاعة) التي تقف شامخة في وجه الريح وسط الصحاري والوديان وجذورها مغروسة بعمق في صحراء الحياة، وزادت ثقتها وقوتها بأنها في أرضها وسط أهلها. عليك أن تُعجب بمن يستقر في مكان ما ويغرس جذوره. كنت أقضي وقتي معك كأمر مسلّم به، لم أعلم أنني سأفقدك بسرعة. لم أكن أُقدّرك بما يكفي عندما كنتِ على قيد الحياة. من الصعب المضي قدمًا وأنا أعيش في الماضي وذكرياتي معك. قلبي يحمل الكثير من الحزن والندم لأنني لم أقدّر كل لحظة بجانبك. يتعامل كل إنسان مع حزنه بشكل مختلف أو يتهرب من التعامل. ولكن لا ينبغي لأحد أن يحزن وحيدًا.

حميدة عندما سمحتي لنفسك بالحلم وسعيتي لتحقيقه صنعتي فيلماً ألهم التغيير في العالم. وألهمني لاتخاذ هذا الاستنتاج كمنهج حياة: الحب هو الحياة والحياة هي الحب. دائرة الحياة كاملة لا نهائية. فالنهايات هي بدايات جديدة. أدركت أن حياتي ثمينة ووقتي أغلى من أن أهدره في علاقات مؤذية، وحوارات عقيمة. علي أن أسعى لاستثمار وقتي في نفسي وربّي وعلاقتي مع الأشخاص المهمين. تعلّمت أن أتوقف قليلاً لأتنفس وأعيد ترتيب أولوياتي وأرسم خريطة حياتي كما أريد أن أعيشها. تعلّمت أن لي الحق في مشاعري ومساحتي الخاصة في الفرح والحزن.

 

آخر البيالة: 

Life is like a camera. Just focus on what’s important and capture the good times, develop from the negatives, and if things don’t work out, just take another shot.” – Ziad K. Abdelnour

 

الحياة كالكاميرا. ركّز على المهمّ والتقط اللحظات الجميلة، واستفد من السلبيات. وإن لم تسر الأمور كما يجب، التقط صورة أخرى. - زياد عبد النور

No comments:

Post a Comment