Monday, October 6, 2025

وقعت في قلبي آية - بر الوالدين


﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ﴾

من يتدبر القرآن والسنة النبوية، يدرك أهمية بر الوالدين والإحسان إليهما في الدين. فقد وردت كلمة الوالدان في القرآن الكريم في أربعة عشر موضعاً، وبرّهما في ثمانية مواضع. برّهم من كمال الإيمان، حيث ربط الله تعالى طاعة وبر الوالدين بطاعته تعالى، وعطف برّهم على توحيده وترك الإشراك به، والدليل الآية الكريمة: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّـهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾. وفي آية أخرى، قرن شُكره وحمده بشُكر الوالدين، قال تعالى: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾. وقد أثنى سُبحانه على عددٍ من أنبيائه لبِرّهم بآبائهم. فقال تعالى بنبيّه يحيى عليه السلام: ﴿وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوالِدَيهِ وَلَم يَكُن جَبّارًا عَصِيًّا﴾. وبنبيّه عيسى عليه السلام: ﴿وَبَرًّا بِوالِدَتي وَلَم يَجعَلني جَبّارًا شَقِيًّا﴾. ودعاء نبيه نوح عليه السّلام: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً﴾. وبر نبيه إبراهيم عليه السّلام بأبيه: ﴿سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً﴾. قال النبي محمد ﷺ: (من أرضى والديه فقد أرضى الله، ومن أسخط والديه فقد أسخط الله).

كما حثّ الله عز وجل على برّهما في كثير من المواضع، أهمها الآية التي نزلت في الصحابي سعد بن أبي الوقّاص رضي الله عنه، وأمّه حَمْنَة بنت سفيان: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾. عندما أسلم سعد بن أبي الوقّاص، حلفت أمّه ألّا تأكل وألّا تشرب وألّا تكلّمه أبداً حتى يكفر. فحاول أن يطلب منها الرضا، إلاّ أنها رفضت بالرغم من أنّه كان أحب ابنائها، وقالت: "زعمت أنّ الله أوصاك بوالديك، فأنا أمّك وأنا آمرك أن تترك الإسلام"، فلبثت ثلاثة أيام لا تأكل ولا تشرب؛ حتى فقدت الوعي من الإجهاد والتعب. فشكى سعد إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية الكريمة.

أمي الحبيبة الحضن الدافئ، أبي الغالي السند الذي لا يُتعوّض

بر الوالدين ليس واجباً دينياً فحسب، بل قصة جميلة نكتبها بمشاعر الحب والاحترام والتقدير والاهتمام وحسن المعاملة. هي دِين ودَين، دِين يأخذك إلى الجنة، ودَين يرده إليك أبنائك. لقوله تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾. لا يغلق أمامك باب في الدنيا والأخرة إلا ومفتاحه برّ الوالدين. هم نور البيت وشريانه، وسر السعادة والرضا، نعمة تستحق الشكر والامتنان. برّهم سبب في مغفرة الذنوب ودخول الجنة. وصلهم سر البركة بالعمر والرزق، لحديث النبي ﷺ: (مَن سَرَّهُ أنْ يُمَدَّ له في عُمُرِه، ويُزادَ في رِزقِه، فلْيَبَرَّ والِدَيهِ، ولْيَصِلْ رحِمَه).

مع التقدّم في العمر ندرك أن الشعور "أريد أمي وأبي" لا يعرف عمراً محدداً، ولا تمنعه المسافات، ولا يوقفه الزمن. كل شيء حولنا متغير وغير مستقر عدا قلب وحنان الوالدين، يبقى ثابت كما هو. كبرنا ولازلنا في عينهم صغاراً. نهرب لحضنهم من ويلات القدر، وخيبات الأيام. لأنهم الوطن الفسيح حين تضيق الأمكنة. أدركنا أنهم لم يكونوا كاملين ومثاليين، بل كانوا بشراً يخوضون تجربتهم الأولى في الحياة مثلنا تماماً. هم القدوة والسند والآمان، يحملون مسئولية العائلة ومسئولية أخطاءهم وتضحياتهم كما يحملون نواياهم الطيبة. يحاولون قدر المستطاع تربيتنا على الطيب والمحبّة والرحمة بما توفر لهم من مقدرة ومعرفة وظروف. خلقوا لنا من المنزل بيئة محبة ذات ثراء اجتماعي وعائلي لا حدود للخيال والأحلام فيه. استلهمنا حب العلم وحب التجربة والاستكشاف، وعدم الخوف من الوقوع بالخطأ وتكرار المحاولة.

كتبت ومسحت وكتبت ومسحت، ولا زِلت أكتُب وأمسح، وإلى الآن لم أصِل لـكلام يوصف ما بداخلي من شعور وفخر يوفيهم حقهم

حين أجلس مع أبي في حديقة المنزل نستامر على صوت أم كلثوم، فهو البر بالكلام الطيب، لقوله تعالى: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ وَلا تَنهَرهُما وَقُل لَهُما قَولًا كَريمًا﴾. وحين أسهر مع أمي لمشاهدة فيلم أو الخروج للسوق، فهي المعاملة الحسنة والمصاحبة، لقوله تعالى: ﴿وَاخفِض لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحمَةِ﴾. وعندما أشتري لهما شيئاً حميلاً يحبونه أو أتصدق عنهما، فهو البر في المال، لقوله تعالى: ﴿وَآتِ ذَا القُربى حَقَّهُ﴾. وأخيراً الدعاء لهم لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة، إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". اللهم اجعل أمـي وأبي ممن تقول لهما نار جهنم أعبروا، فإن نوركم أطفأ ناري. وتقول لهما الجنة أقبلوا، فقد اشتقت لكم قبل أن أراكم.

دعوة قصيرة من أُمك تُغنيك عن ألف كلمة حُب

هذه التفاصيل الصغيرة تحمل ثمرة خير تُبقي القلب دافئاً وصادقاً. هي ممارسات يومية بسيطة تعزز الإحساس بالانتماء والحب. هما نعمة تعجز الحروف عن وصفها ويعجز اللسان عن حمد الله وشكره. ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾.

تحية لأبي الذي علّمني كيف أكون رجلًا رغم أنني ابنته. تربيته غرست فيني القوة والاعتماد على النفس والتفاني في العلم والعمل. تربية ألا أكون نسخة من جنسنا، بل نسخة أصلية وأصيلة من ذاتنا، قوية بما يكفي لتواجه الحياة. أؤمن بأن أي شيء أطمح له أستطيع تحقيقه، ولا أستصغر دوري كفرد في المجتمع والعائلة. أمي، اليد التي تحضن بحُب، والنبض الذي يربطنا بالحياة. والروح التي تحتمل، تُعطي دون أن تشتكي، تُضحي دون أن تُظهر الضعف. تعلمنا منكِ أن نسير في الرحلة يحرُّكنا الإيمان، وإن كنّا لا نعرف النهاية.

طيبة الأب أعلى من القمم، وطيبة الأم أعمق من المحيطات

كبرنا ونضجنا، لم نعد أطفالاً. الآن أمي وأبي يحكون لي همومهم وأنا أخفي همومي عنهم، حتى لا أقلقهم. جزء من النضج أننا نحمل أحزاننا بصمت لأننا نود حماية من نحب من ثقلها. لكما في حياة كل منا دورٌ لا يُنسى، وجميلٌ لا يُرد.

آخر البيالة: عندما أتأمل والديّ، وأرى ملامحهما اكتست بالتجاعيد، ابتسم. هذه ليست تجاعيد، ‏إنها ذكريات. مسيرة حياة بمسرّاتها تمارس فن النحت على الوجوه.

No comments:

Post a Comment