Tuesday, November 17, 2020

اكتشف قطر – ذكريات أم باب

سقالله يازمن من وين ذاك المنزل المهجور
بعد ماكان منزل عامر بأهله واحبابه
تهدم مابقى منّه سوى باب وبقايا سور
ولكن مع مرور الوقت باقي شامخٍ بابه
يسولف للزمن عن ماضي الذكرى وموت النور
وكنّ الشمس من خلفه تزول وتعلن غيابه
بقى خالي بعد ماكان بأهله شامخ ومعمور
ومن جرد السنين أصبح رفات وغادر أصحابه
ذكرتك وانتهى عهد وبقى ذكرك بنا محفور
أبد مايختفي حبر الزمن من صفحة كتابه

كلمات في صميم وصف المنزل الذي سكنه أهل زوجي في أم باب. البيت الذي بدأت فيه قصتهم بكل حب وهويتهم بكل أمن وأمان. وبالرغم من بساطة المنزل الذي تألف من دور واحد، إلا أنه كان شاهداً على قصة حياة عائلية بحلوها ومرها. حيث أن أجمل الأيام ليست تلك التي يحدث فيها أي شيء رائع جدًا أو مثير، ولكن فقط تلك الأحداث البسيطة المتواضعة التي تترك فينا من الملذات أجملها ومن الذكريات أروعها.

"الحب يبدأ في المنزل، وليس مقدار مانقوم به ... ولكن مقدار الحب الذي نضعه في هذا العمل." تيريزا

Love begins at home, and it is not how much we do... but how much love we put in that action. ― Mother Teresa

ذهبت في رحلة عائلية لزيارة أم باب، إحدى المدن الصناعية التي تقع في غرب قطر، حيث مصنع الإسمنت والمصانع النفطية، وكانت هذه زيارتي الأولى للمدينة. ووضعنا رحالنا على شاطئ أم باب المتميز برماله الذهبية ومياهه الزرقاء الصافية. مستمتعين بالأجواء الشتوية ودفء نار الحطب، نرتفب ساعة مغيب الشمس في الأفق تودعنا بشعاعها الأخير بعمق لونه الذهبي. ندلل حواسنا باستكانة كرك والحديث عن الذكريات، وإبقائها حية وحاضرة على الدوام وإيقاظ الحنين لزمن جيل الطيبين الجميل. فما أجمل أن ترتبط الذكريات بالعقل والحواس معاً، لتبقى مصدر قوتنا وارتكازنا في هذه الحياة. تثير مشاعر جميلة ودافئة وترسم ابتسامة ناعمة في وجوهنا، وقد تثير حزناً لايمكن أن نتخطاه لأحداث بقت محفورة في قلوبنا بعدما تركنا المكان. وهناك أشياء فينا لا يمكننا إيجادها إلا بالعودة إلى المكان الذي انتمينا إليه، لنتذكر صباح أيام المدرسة بدفئ أشعة الشمس الصفراء الحانية وزقزقة العصافير الهادئة، وفي المساء نستمتع بنسيم الصيف عندما نلعب بالقرب من سيف البحر. لكن الحياة في ذلك الزمن تبدو الآن وكأنها حلماً نعيشه كل ليلة لنستيقظ من نومنا ونترك هذه الأحلام على وسادتنا لنعيشها من جديد في المساء.

وبعد وجبة الغداء، ذهبنا في رحلة استكشافية في أرجاء المدينة. نقف أمام كل زاوية مسترجعين شريط الذكريات بحلوها ومرّها، ونجدد علاقتنا مع المكان الزمان. مدينة أم باب ذات تاريخ عريق، تجمد عندها الزمن. كل شيء فيها متروك على سجيته كما كان أول ماأنشأت. طرقات وعرة تمر بين بيوت قديمة وشبه متهالكة يسكنها عمّال وبعض المحال التجارية القديمة البسيطة، تقودك إلى حديقة متواضعه وسينما في الجو المفتوح وروضة أطفال. وقفت مطولاً أمام بيت شركة الاسمنت الذي سكنه أهل زوجي، بيت عربي بسيط مهجور، وأغمضت عينيّ وأطلقت الخيال يتغلغل في زواياه وغرفه ليحكي لي قصة الحياة التي كانت يوماً ما فيه. فالبيوت ليست مجرد طوب وحجرات وممرات وأثاث، إنما حياة مليئة بالحكايات والأحداث. في الصباح تتجاوز أشعة الشمس قضبان الحديد المشغول ونسيج قماش الستائر لتضيء زوايا المنزل وتوقظ جميع أفراد الأسرة، ليبدأ اليوم بإفطار عائلي بسيط، وينتهي بحلول المساء واجتماع الأسرة حول مائدة العشاء أو شاشة التلفاز الصغيرة وضحكات الأبناء وحكايات الأباء ودعاء الأمهات. وأيقنت أن جمال المكان وسعادته يكمن بالأشخاص الذين يعيشون فيه والترابط الأسري والاجتماعي الذي يربط بعضهم ببعض، وليس بحجمه وعدد غرفه ومافيه من أثاث.

ولم تكن هذه الرحلة الأخيرة لي، بل جئنا في رحلة عائلية أخرى لقضاء يوم منعش في السباحة في مياه البحر الصافية. وقد عُرف شاطئ أم باب بشاطئ أشجار النخيل، والتي تظهر في العملة القطرية المعدنية. وقريب مغيب الشمس، جلسنا على شاطئ البحر تجمّل سفرتنا القهوة والحلويات والفواكهة. نستمتع بمنظر الشمس تلامس مياه الخليج الغربي والسماء تميل إلى الحمرة بلون ثمرة الكاكا. نتحدث عن الرحلات والمغامرات التي تدفعنا برفق نحو هذه المدينة وحكاياتها وذكرياتها، تفتح عالم واسع لا حدود للخيال فيه، لينتهي اليوم العائلي كما بدأ: بالدفء والحب والضحكة والحفاوة. ليكون هذا اليوم ذكرى جميلة في حياتنا وحياة أبنائنا ومركز قوة نستند عليه.

آخر البيالة: لم يكن المنزل منزلًا ثابتًا، أو بلدة ما على الخريطة. إنما كان بالأشخاص الذين أحببناهم، عندما كنّا معًا. ليس مكانًا، بل لحظة ثم أخرى، ذكرى تبنى واحدة تلوى الأخرى مثل الطوب يُشكل منزلاً دافئاً نأخذه معنا طول العمر، أينما ذهبنا.

فالمنزل ليس من أين أنت، بل هو الضوء الذي تجد فيه نفسك عندما يعم الظلام.

No comments:

Post a Comment