Monday, October 14, 2024

ذكريات ساعي البريد


الذي جعلني أتحدث في المقال السابق عن الصداقة، هو ما وجدته في صندوق للذكريات أثناء ترتيبي لأحد الغرف. احتوى الصندوق على صور ورسائل قديمة من أيام الطفولة والمراهقة أو ما نحب أن نسميه جيل الطيبين. ذكريات سعيدة لصداقات رائعة، وقصص وأحداث جميلة، ومغامرات لها نكهة خاصة. احتوت على أشخاص نعزهم وفقدناهم جسدياً، وأشخاص خسرناهم مع مرور السنين وفقدنا جسور التواصل معهم، وأسماء ووجوه لم أعد اتذكر أصحابها. ذكريات تركت في القلب شعور لا يمكن التعبير عنه بالكلام ولا حبراً على ورق. غير أنني أحمد الله على أيام كتلك وأناس كهؤلاء، أدعو لهم بكل خير.

استمتعت بمشاركة هذه الصور والرسائل مع الأهل والأصدقاء وكأنها شريط فيديو يعرض أمامنا. فانتقلنا في الزمن لعمر اشتقنا إليه، لزمن غمر حواسنا بالدفء والحنان والسعادة. ضحكنا لبعضها وحزنا للبعض الآخر، واستغربنا من الكثير. مدتنا بمشاعر وأحاسيس مختلفة ذكرتنا بأحداث ومغامرات كانت لنا الأرض الخصبة لعيش حياة جميلة ولتنمية شخصيتنا وكسب المهارات والإبداع في المواهب، خصوصاً موهبتي في الكتابة والتعبير. تلك الأحداث والمغامرات لم ولن أندم من خوضها سواء كانت ذات نهاية سعيدة ومفيدة أو مؤلمة وحزينة، لأنها شكّلت من أنا اليوم.

تمر السنين وتبقى الذكريات قصصاً صامتة تركت بقلوبنا أثراً لا يزول. قصص وحكايات بحلوها ومرّها خالدة في الذاكرة. نحن لا نشتاق لتلك الأوقات فقط، بل نشتـاق لأنفسنا وكيف كنا ذاك الوقت. نشتاق أن نعود لتلك النفوس البريئة والبسيطة من جديد، ونشتاق لتلك النفوس التي رحلت عن هذه الدنيا.

كم كنت أعشق التواصل عندما كانت الرسائل والبطاقات البريدية الطريقة الوحيدة إلى جانب الهاتف المنزلي بين الأهل والأصدقاء من بلدان مختلفة. أنتظر بفارغ الصبر الرسائل التي تحمل بكل حب وشوق الاجابات على أسألتي ومواضيع الدراسة وأحداث كانت يوماً مهمة جداً. من ضمن تلك الرسائل استوقفتني رسالة من معلمة مادة اللغة الانجليزية في المرحلة الإعدادية. أحزنتني الرسالة لأنها كانت رسالة عتاب من المعلمات الجليلات التي أكن لها الاحترام والتقدير، جمعتنا بها رابطة عظيمة. ألهمتنا بأسلوبها كأم محبة لأبنائها وتسعى لمصلحتهم، تشجعنا على اكتساب المهارات والمعلومات وتنمية المواهب والإبداع. لا أنكر أنني لم أكن من الطالبات الاتي يحبن المشاغبة البريئة ضمن حدود الاحترام والأدب. لكنني لم أجعل هذه المشاغبات تؤثر على مسيرتي التعليمية، وعلاقتي مع مدرساتي وزميلاتي.

كنا على تواصل مستمر بالرسائل مع أهلنا في الكويت، وأخوتي عندما اكملوا دراستهم الجامعية في الولايات المتحدة الأمريكية. وكم استمتعت بالرسائل التي وصلتني من صديقة في البرازيل، والتي تعرفت عليها عن طريق المراسلة في بداية ال 2000. كانت تبدع في رسائلها من خلال مشاركتي صور والحياة في بلدها بمختلف مجالاتها. ورسائل من زميلة أيام الثانوية، تحدثني عن حياتها في بلدها مع أسرتها ودراستها في الجامعة الأردنية للآداب. صداقات تحدت المسافات الجغرافية.

لا زلت في بعض الأحيان عندما أسافر أرسل لنفسي بطاقات بريدية تحمل صورة للمعالم السياحية في البلد الذي زرته. لكن هل من الممكن أن تعود هواية المراسلة في عصرنا الحالي؟

آخر الاستكانة: المراسلة هواية بالرغم من بساطتها، إلا أن لها في القلب معزّة خاصة تبين مدى العلاقة الحميمية التي تربط بين الطرفين. طقوس ذهبت في طي النسيان، صناديق وساعي البريد، أظرف بعنوان تحمل طوابع وأختام بريدية في جعبتها أوراق مخططة وملونة أو سادة بيضاء، تجملت بخط يد مرسلها، وتزينت برسومات أو ملصقات وقد تحوي في بعض الأحيان على صور شخصية أو معالم سياحية أو حيوانات، افتقدتها في عصر التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي.

Thursday, October 3, 2024

الشلة


كم اعتز بأصدقائي، ممتنة لوجودهم وإن قل عددهم. لا يهمني عددهم، بل ما يتحلون به من صدق ومودة ونضج. صداقة مبنية على البساطة والحميمية واليُسر والتفاهم والخصوصية. محبتهم في قلبي مصونة، ووجودهم في حياتي إلى جانب عائلتي يكفيني عن العالم. يتلهفون للقائي مثلما أعشق رفقتهم، معهم لا أضع قناع التكلف والتصنع. نلتقي بكل أريحية على الرغم من تباعد لقائتنا. فحياتي لوحة هن ألوانها، وصداقتنا رحلة يشاركنني حلوها ومرها بشغف وحب. تعلّمت مع الوقت إن كانت لقائاتي معهن مدتها فنجان قهوة ستمنحني من العمر أجمله، فكم اشتاق إلى أصواتهن وضحكاتهن والأهم من ذلك مصافحة أيديهن والنظر في أعينهن.

يقول ابن القيم رحمه الله :(إذا تقاربت القلوب فلا يضرّ تباعُد الأبدان. والطيبون كالنجوم لا تراهم دائماً، ولكنك تعلم أنهم موجودون في سماء القلوب). وعلى مر الزمن ومشاغل الحياة، أصبح الصديق الوفي عملة نادرة. الصديق وحتى إن باعدتنا الظروف عنه يبقى في تواصل روحي معي، يسأل عني دون اللوم أو عتاب، ويخلق ألف سبب ليكون بجانبي. فالعلاقات خلقت للراحة والرحمة كما ذُكر في مواضع كثيرة بالقرآن لقوله تعالى: ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ﴾، ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾، ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾.

فالصداقة ثروة لا تقدر بثمن، ولكن يمكن تقدير قيمتها بالمواقف الصادقة. صداقة تنتهج من مقولة الإمام أحمد بن حنبل: (إن لنا إخواناً لا نراهم إلا مرة كل سنة، نحن أوثق بمودتهم ممن نراهم كل يوم. أسعد الله قلوباً طاهرة إن وصلنا شكرت وإن قصّرنا عذرت). فليس كل تواصل مودة وتآلف، وليس كل غياب جفاء. يكفي أننا على الخير التقينا، وعلى حب الله اجتمعنا.

علمتني الحياة أن الصاحب ساحب، كما وصفه رسول الله "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل". فوجود الصديق الصح في حياتي أعظم رزق من الله. جلوسي معه مريح، وحديثي معه فضفضة. يشاركني الأحلام والطموحات، يصغي إلي بقلبه قبل أذنيه وإن تحدثت إليه بصمت. يمسك يدي عندما أضل طريقي، يذكرني بالحلال والحرام. يؤمن بقدراتي ويفرح بإنجازاتي، ويدفعني للنجاح عندما أسقط وأخضع للهزيمة. ينصحني عندما أخطئ دون تجريح. والأهم من هذا، هو لي الكتف الحنون والأذن الصاغية عندما أريد أن أنعزل عن العالم.

من الصعب جداً إيجاد هذه الصداقات في زمن أصبحت فيه العلاقات سطحية أو مبنية على مصلحة. لذا فنحن بحاجة إلى شجاعة الحذف، حذف العلاقات خصوصاً السلبية، وحذف الأشخاص. فالحياة أقصر من أن نتوتر بسبب أشخاص لا يستحقون، ومن غير المنطقي أن نتغاضى عن أحاديث سلبية وتصرفات مؤذية ورسائل سطحية لأجل المحافظة على شخص والخوف من خسارته، تُعد خسارته أول خطوات رحلة التعافي. من يحب بصدق لا يؤذي أبداً، من يريد التواصل سيتواصل بأي وسيلة، ومن يريد الاهتمام سيجد الوقت ليظهر حبه واحترامه واهتمامه. هناك علاقات لا تقرر استمراريتها الظروف بقدر ما نقررها نحن. نحن من نتمسك أو نفلت، نحن من نبني ونترك. يرحلون ويأتي من هو أفضل منهم، فلا تخشى فراق أحد. وليس من الضروري أن تجعل لنفسك مكاناً في قلوبهم لأنها ضيقة، ازرع احترام ذاتك في نفوسهم وامض في حياتك.

ليس سهلاً أن تخلق لنفسك روحاً محببة أو شخصية جذابة، ولكن من السهل أن تكون خلوقاً ليرتاح بقربك الآخرون. نيلسون مانديلا

آخر الاستكانة: هناك أشخاص يرافقوننا، وهناك أشخاص يفارقوننا. نفس الحروف للعبارتين، لكن وقعهما على الروح مختلف! وبقدر ما تزرع الأولى ربيعاً دافئاً يُؤنس وحدتنا، بقدر ما تجعل منه الثانية خريفاً بارداً ترتجف معه أغصاننا. وهكذا يستمر مسلسل سقوط الأوراق من شجرة أحبتنا.