الذي جعلني أتحدث في المقال السابق عن الصداقة، هو ما وجدته في صندوق للذكريات أثناء ترتيبي لأحد الغرف. احتوى الصندوق على صور ورسائل قديمة من أيام الطفولة والمراهقة أو ما نحب أن نسميه جيل الطيبين. ذكريات سعيدة لصداقات رائعة، وقصص وأحداث جميلة، ومغامرات لها نكهة خاصة. احتوت على أشخاص نعزهم وفقدناهم جسدياً، وأشخاص خسرناهم مع مرور السنين وفقدنا جسور التواصل معهم، وأسماء ووجوه لم أعد اتذكر أصحابها. ذكريات تركت في القلب شعور لا يمكن التعبير عنه بالكلام ولا حبراً على ورق. غير أنني أحمد الله على أيام كتلك وأناس كهؤلاء، أدعو لهم بكل خير.
استمتعت بمشاركة هذه الصور والرسائل مع الأهل والأصدقاء وكأنها شريط فيديو يعرض أمامنا. فانتقلنا في الزمن لعمر اشتقنا إليه، لزمن غمر حواسنا بالدفء والحنان والسعادة. ضحكنا لبعضها وحزنا للبعض الآخر، واستغربنا من الكثير. مدتنا بمشاعر وأحاسيس مختلفة ذكرتنا بأحداث ومغامرات كانت لنا الأرض الخصبة لعيش حياة جميلة ولتنمية شخصيتنا وكسب المهارات والإبداع في المواهب، خصوصاً موهبتي في الكتابة والتعبير. تلك الأحداث والمغامرات لم ولن أندم من خوضها سواء كانت ذات نهاية سعيدة ومفيدة أو مؤلمة وحزينة، لأنها شكّلت من أنا اليوم.
تمر السنين وتبقى الذكريات قصصاً صامتة تركت بقلوبنا أثراً لا يزول. قصص وحكايات بحلوها ومرّها خالدة في الذاكرة. نحن لا نشتاق لتلك الأوقات فقط، بل نشتـاق لأنفسنا وكيف كنا ذاك الوقت. نشتاق أن نعود لتلك النفوس البريئة والبسيطة من جديد، ونشتاق لتلك النفوس التي رحلت عن هذه الدنيا.
كم كنت أعشق التواصل عندما كانت الرسائل والبطاقات البريدية الطريقة الوحيدة إلى جانب الهاتف المنزلي بين الأهل والأصدقاء من بلدان مختلفة. أنتظر بفارغ الصبر الرسائل التي تحمل بكل حب وشوق الاجابات على أسألتي ومواضيع الدراسة وأحداث كانت يوماً مهمة جداً. من ضمن تلك الرسائل استوقفتني رسالة من معلمة مادة اللغة الانجليزية في المرحلة الإعدادية. أحزنتني الرسالة لأنها كانت رسالة عتاب من المعلمات الجليلات التي أكن لها الاحترام والتقدير، جمعتنا بها رابطة عظيمة. ألهمتنا بأسلوبها كأم محبة لأبنائها وتسعى لمصلحتهم، تشجعنا على اكتساب المهارات والمعلومات وتنمية المواهب والإبداع. لا أنكر أنني لم أكن من الطالبات الاتي يحبن المشاغبة البريئة ضمن حدود الاحترام والأدب. لكنني لم أجعل هذه المشاغبات تؤثر على مسيرتي التعليمية، وعلاقتي مع مدرساتي وزميلاتي.
كنا على تواصل مستمر بالرسائل مع أهلنا في الكويت، وأخوتي عندما اكملوا دراستهم الجامعية في الولايات المتحدة الأمريكية. وكم استمتعت بالرسائل التي وصلتني من صديقة في البرازيل، والتي تعرفت عليها عن طريق المراسلة في بداية ال 2000. كانت تبدع في رسائلها من خلال مشاركتي صور والحياة في بلدها بمختلف مجالاتها. ورسائل من زميلة أيام الثانوية، تحدثني عن حياتها في بلدها مع أسرتها ودراستها في الجامعة الأردنية للآداب. صداقات تحدت المسافات الجغرافية.
لا زلت في بعض الأحيان عندما أسافر أرسل لنفسي بطاقات بريدية تحمل صورة للمعالم السياحية في البلد الذي زرته. لكن هل من الممكن أن تعود هواية المراسلة في عصرنا الحالي؟
آخر الاستكانة: المراسلة هواية بالرغم من بساطتها، إلا أن لها في القلب معزّة خاصة تبين مدى العلاقة الحميمية التي تربط بين الطرفين. طقوس ذهبت في طي النسيان، صناديق وساعي البريد، أظرف بعنوان تحمل طوابع وأختام بريدية في جعبتها أوراق مخططة وملونة أو سادة بيضاء، تجملت بخط يد مرسلها، وتزينت برسومات أو ملصقات وقد تحوي في بعض الأحيان على صور شخصية أو معالم سياحية أو حيوانات، افتقدتها في عصر التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي.