Thursday, October 3, 2024

الشلة


كم اعتز بأصدقائي، ممتنة لوجودهم وإن قل عددهم. لا يهمني عددهم، بل ما يتحلون به من صدق ومودة ونضج. صداقة مبنية على البساطة والحميمية واليُسر والتفاهم والخصوصية. محبتهم في قلبي مصونة، ووجودهم في حياتي إلى جانب عائلتي يكفيني عن العالم. يتلهفون للقائي مثلما أعشق رفقتهم، معهم لا أضع قناع التكلف والتصنع. نلتقي بكل أريحية على الرغم من تباعد لقائتنا. فحياتي لوحة هن ألوانها، وصداقتنا رحلة يشاركنني حلوها ومرها بشغف وحب. تعلّمت مع الوقت إن كانت لقائاتي معهن مدتها فنجان قهوة ستمنحني من العمر أجمله، فكم اشتاق إلى أصواتهن وضحكاتهن والأهم من ذلك مصافحة أيديهن والنظر في أعينهن.

يقول ابن القيم رحمه الله :(إذا تقاربت القلوب فلا يضرّ تباعُد الأبدان. والطيبون كالنجوم لا تراهم دائماً، ولكنك تعلم أنهم موجودون في سماء القلوب). وعلى مر الزمن ومشاغل الحياة، أصبح الصديق الوفي عملة نادرة. الصديق وحتى إن باعدتنا الظروف عنه يبقى في تواصل روحي معي، يسأل عني دون اللوم أو عتاب، ويخلق ألف سبب ليكون بجانبي. فالعلاقات خلقت للراحة والرحمة كما ذُكر في مواضع كثيرة بالقرآن لقوله تعالى: ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ﴾، ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾، ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾.

فالصداقة ثروة لا تقدر بثمن، ولكن يمكن تقدير قيمتها بالمواقف الصادقة. صداقة تنتهج من مقولة الإمام أحمد بن حنبل: (إن لنا إخواناً لا نراهم إلا مرة كل سنة، نحن أوثق بمودتهم ممن نراهم كل يوم. أسعد الله قلوباً طاهرة إن وصلنا شكرت وإن قصّرنا عذرت). فليس كل تواصل مودة وتآلف، وليس كل غياب جفاء. يكفي أننا على الخير التقينا، وعلى حب الله اجتمعنا.

علمتني الحياة أن الصاحب ساحب، كما وصفه رسول الله "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل". فوجود الصديق الصح في حياتي أعظم رزق من الله. جلوسي معه مريح، وحديثي معه فضفضة. يشاركني الأحلام والطموحات، يصغي إلي بقلبه قبل أذنيه وإن تحدثت إليه بصمت. يمسك يدي عندما أضل طريقي، يذكرني بالحلال والحرام. يؤمن بقدراتي ويفرح بإنجازاتي، ويدفعني للنجاح عندما أسقط وأخضع للهزيمة. ينصحني عندما أخطئ دون تجريح. والأهم من هذا، هو لي الكتف الحنون والأذن الصاغية عندما أريد أن أنعزل عن العالم.

من الصعب جداً إيجاد هذه الصداقات في زمن أصبحت فيه العلاقات سطحية أو مبنية على مصلحة. لذا فنحن بحاجة إلى شجاعة الحذف، حذف العلاقات خصوصاً السلبية، وحذف الأشخاص. فالحياة أقصر من أن نتوتر بسبب أشخاص لا يستحقون، ومن غير المنطقي أن نتغاضى عن أحاديث سلبية وتصرفات مؤذية ورسائل سطحية لأجل المحافظة على شخص والخوف من خسارته، تُعد خسارته أول خطوات رحلة التعافي. من يحب بصدق لا يؤذي أبداً، من يريد التواصل سيتواصل بأي وسيلة، ومن يريد الاهتمام سيجد الوقت ليظهر حبه واحترامه واهتمامه. هناك علاقات لا تقرر استمراريتها الظروف بقدر ما نقررها نحن. نحن من نتمسك أو نفلت، نحن من نبني ونترك. يرحلون ويأتي من هو أفضل منهم، فلا تخشى فراق أحد. وليس من الضروري أن تجعل لنفسك مكاناً في قلوبهم لأنها ضيقة، ازرع احترام ذاتك في نفوسهم وامض في حياتك.

ليس سهلاً أن تخلق لنفسك روحاً محببة أو شخصية جذابة، ولكن من السهل أن تكون خلوقاً ليرتاح بقربك الآخرون. نيلسون مانديلا

آخر الاستكانة: هناك أشخاص يرافقوننا، وهناك أشخاص يفارقوننا. نفس الحروف للعبارتين، لكن وقعهما على الروح مختلف! وبقدر ما تزرع الأولى ربيعاً دافئاً يُؤنس وحدتنا، بقدر ما تجعل منه الثانية خريفاً بارداً ترتجف معه أغصاننا. وهكذا يستمر مسلسل سقوط الأوراق من شجرة أحبتنا.




No comments:

Post a Comment